Friday, August 30, 2013

ذكريات تأبى النسيان: مقتطفات من الجزء الأول "الشتات"

لمحة عن حياة العائلة
قضى عمي جُمعة معظم حياته وشبابه في مدينة يافا، ما أعطاه فرصاً كثيرة لتكوين صداقات مع شبابها، كان من بينهم صديق يهوى السيارات والدراجات، اسمه لطفي النابلسي... كان لطفي على ما بدا ينتمي إلى عائلة ثرية. وفي يوم من الأيام جاء لطفي لزيارتنا، ترك سيارته أمام الباب الرئيسي، ودخل مع عمي وصديقين آخرين داخل البيارة (البستان) ومعهم زجاجات اعتقد أنها كانت من النبيذ. ومن أجل التخلص مني، قام أحدهم بنفخ دخان سيجارته في وجهي، ما جعلني أشعر وكأن بؤبؤ عيني يحترق في نار. نهضت مسرعاً، شتمتهم جميعاً من دون تردد، وسرت بهدوء نحو البيت. حين وصلت هناك، لاحظت أن السيارة كانت واقفة بهدوء... أغراني منظرها، رأيت فيها لعبة أتسلى بها، ولذا حاولت أن أقلد عمي وأقوم بتشغيلها، إلا أنني كلما ضغطت على زر التشغيل وسمعت صوت المحرك ورأيت السيارة تتحرك قليلاً كنت أخاف وأتوقف، ثم أعود ثانية وأكرر ما فعلت. وحين عاد الأصدقاء بعد أن قضوا وقتاً جميلاً وانتهت الحفلة، كانت مفاجأتهم كبيرة، إذ اكتشفوا أن السيارة معطلة... كنت قد لعبت بها وقتاً كافياً لإفراغ البطارية من شحنتها، وهنا هربت من وجههم في داخل البيارة ولدي شعور بالتشفي.
هناك تجربتان سلبيتان حدثتا أمامي وكان لهما أثر ايجابي  على حياتي: الأولى نفخ دخان السيجارة في عيني، حيث جعلني ذلك الحدث أكره السيجارة والتدخينً، وقادني إلى اتخاذ موقف معادٍ للتدخين بشكل عام، ترسخ بعد أن تعرف العلم على المضار الصحية الكثيرة والخطيرة للسيجارة. لذلك لم أدخن سيجارة في حياتي. أما الشيء السيئ الثاني الذي كان له أثر ايجابي على حياتي فقد حدث في أريحا بعد سنوات حين رأيت رجلاً وقد فقد وعيه من كثرة ما شرب من الخمر في أحد الأعياد، وبدأ يترنح بشكل مضحك ما دفع العديد من الصبية إلى التجمع حوله والاستهزاء به. وحيث أنه لم يكن باستطاعة ذلك الرجل السير على قدميه من كثرة السكر، فإن رجال الأمن وضعوه في عربة من العربات الحديدية التي كانت تُستخدم لجمع القمامة من الشوارع ونقلها إلى المحرقة. إلا أن الرجل الذي كان في حينه في عداد المعتوهين، ظن نفسه رئيس دولة يركب سيارة فخمة مكشوفة، وأن الجماهير التي تجمعت من حوله تستهزئ به جاءت كي تحييه وتهتف بحياته، ما جعله يلوح بيده محيياً الجماهير على جانبي الطريق. وهذا أقنعني بالابتعاد عن الخمر والحذر من مغبة أن أقع في نفس المأزق، ولذا لم انجرف مع أصدقائي من الشباب فيما بعد خلف السيجارة أو شرب الكحول، أو حتى الإدمان على شيء له علاقة بالأكل أو الشرب أو اللهو... نعم لقد أدمنت على هوايات عديدة منها حب الناس والقراءة والكتابة والطبيعة والسفر والتدريس الجامعي.
علمني والدي كيف أضع أصابعي في فمي وأصفر نغمات متعددة، استخدمناها وسيلة اتصال فيما بيننا. الصفرة الواحدة كانت تعني "أنا هنا"، اما الصفرتان فكانت تعني "تعال"، وتكرارها ثلاثاً كان يعني "لا تأتي، سآتي أنا". لذا كنت بعد أن أصحو من النوم في الصباح، وبعد أن أعود من المدرسة في الظهيرة، أطلق صفارتي عالية فيرد علي والدي، وبالتالي أعرف مكان وجوده في البيارة (بستان البرتقال). أذهب إليه مسرعاً فيخبرني عن الأشياء التي كنت أحبها وأتابعها بشغف: بيوت العصافير التي بدأت في تكوينها، عدد البيض في البيوت التي تمت عملية بنائها حديثاً، ما نوع تلك العصافير؟ وما حجم العصافير التي كانت بيضاً وفقست قبل أيام؟ وهل نمت بما يكفي وهجرت بيوتها وسافرت مع غيرها من العصافير عبر المسافات؟ كانت العصافير وسيرة حياتها وأنواعها وألوانها وأنغامها ومواسم قدومها وهجرتها أكثر الأشياء التي جذبتني في طفولتي، حتى توقفت تلك الطفولة عن النمو في الشهر الأول من عام 1948، وحُرِمتْ من تذوق طعم الفرح والتمتع بسماع دعاء العصافير تستقبل الصباح، وتودع النهار في المساء. كان الهُدهُد هو أكثر الطيور التي سحرتني بريشها وألوانها الخلابة وكبريائها، ولذا عز علي فراقها كثيراً. وعلى الرغم من عشقي للعصافير والطيور، إلا أن علاقتي معها لم تكن علاقة حب وعشق فقط، بل كانت أيضاً علاقة تنافس. كنا نتنافس على ثمار الجوافة والتين بشكل خاص، ولم يزعجني أبداً أن آكل حبة تين أو جوافة سبقتني العصافير إلى تذوق طعمها، لأن لدى العصافير حساً غريزياً يدلها على أفضل حبات التين والجوافة الناضجة.
توفي جدي لأبي وكذلك جدي لأمي قبل ميلادي بأعوام، لذلك فقد أبي والده في سن الشباب، ما جعله يحن لذلك ويعامل كل رجل أكبر منه سناً كوالده. وبسبب حاجة الوالد لمساعدة مستمرة للعناية بالبيارة، وفي ضوء انشغال عمي بنشاطات شبابية لا تمت للزراعة بصلة، كالتمثيل والرياضة والسيارات، وجد والدي نفسه بحاجة لمن يساعده بشكل دائم. ولقد وجد ضالته في رجل مخلص طيب القلب كان يكبره بسنوات من قرية وادي حنين التي تقع إلى الجنوب من قرية بيت دجن. كان والدي ينادي ذلك الرجل الذي عاش معنا وفي بيتنا "يابا" أي يا والدي، ويعامله بلطف واحترام، حتى حين يخطئ. وفي يوم من الأيام، أخذني ذلك الرجل معه إلى قريته على ظهر حمار لأحضر حفلة زفاف أحد أبنائه الثمانية. إلا أنني هربت في صباح اليوم التالي من القرية وسرت مُسرعاً في اتجاه يازور، حيث اتبعت نفس الطريق التي سلكناها من يازور عبر بيت دجن إلى وادي حنين، لكن أحد أولاده ركب حصانه وتبعني. وفيما كنت جالساً على دوار بيت دجن أراقب المارة وآخذ قسطاً من الراحة، فجأني ذلك الشاب، وحملني على حصانه، وعدنا إلى وادي حنين. كانت هناك نكتة تقول: "إذا توشوش أهل يازور، أهل بيت دجن بسمعوهم"، أي أن سكان بيت دجن يسمعون همس سكان يازور، وذلك لشدة قرب يازور من بيت دجن. إلا أن المسافات القريبة، وعلاقات النسب والجوار والصداقة بين أبناء البلدتين لم تكن كافية لتوحيد لهجاتهم أو تقاليدهم. كان أهل بيت دجن أكثر تحرراً من النواحي الاجتماعية من أهل يازور، وكانت لهجتهم أكثر ليونة، يمطون الكلمات كأنهم يمضغونها. أما أهل يازور فكانوا يتصفون بالمحافظة ولكن بالتسامح والكرم، ما جعل يازور تستضيف الكثير من الغرباء الذين جاؤوا للعمل والتجارة في مدينة يافا. ومن بين الغرباء الذين سكنوا يازور جماعة كانت تُدعى الُغْربية" جاءوا إلى فلسطين من تونس والمغرب ومصر، وسكنوا على أطراف يازور، امتهنوا بشكل أساسي حرفة الحدادة، خاصة صناعة أدوات الزراعة والسكاكين والمناشير وما شابه ذلك.
لم يكن ذلك الشيخ الطيب الذي كنت أناديه "سيدي" أي جدي، هو الشخص الوحيد الذي انضم إلى عائلتنا الصغيرة في يازور وأصبح واحداً منا. كان هناك أيضاً شخص آخر اسمه فارس، جاء صبياً من قرية "بيت دَراس" التي تقع في جنوب فلسطين على بعد 30 كيلومتراً تقريباً من مدينة غزة، وعاش معنا وعمل في بيارتنا حتى أصبح واحداً من أبناء العائلة، وهذا جعله يكتسب اسم "فارس أبو ربيع"، لكن اسمه الحقيقي هو فارس محمود خليل شاهين. وبسبب كونه واحداً من أبناء العائلة، ولم يكن يُعامل كعامل زراعي لديها، فإن والدي زوجه ابنة خالته التي كانت من أهالي قلقيلية. وحين فتحت عيني على الدنيا، وجدت امرأة سمراء ممشوقة القوام حولي، أحببتها كثيراً وأحبتني أكثر، كنت أناديها وحتى وفاتها في عمان بعد أكثر من 60 عاماً، عمتي "حليمة". أما أهل البلدة فكانوا يسمونها "حليمة البدوية".
جاءت الصبية حليمة إلى يازور بعد رحلة شاقة لا ندري كم استغرقت من الوقت، قطعت خلالها نهر الأردن وعدة مدن وعشرات القرى الفلسطينية وحوالي 80 كيلومتراً مشياً على الأقدام. كانت حليمة التي تنتمي لعشيرة العدوان التي تسكن في منطقة على الجانب الشرقي لنهر الأردن، قد هربت من وطنها وبيت عائلتها وعشيرتها بعد أن تعرضت لظروف غير عادية. قطعت حليمة النهر وعبرت إلى فلسطين، ووصلت يازور بعد رحلة طويلة لا نعرف عن تفاصيلها شيئاً. لكنها حين وصلت يازور، وكانت في حينها حاملاً، كان من حسن حظها أنها وجدت جدتي "حِسِنْ" هناك لاستقبالها. أخذتها جدتي إلى البيت وتبنتها، وضمتها إلى عائلتها الصغيرة، وعاملتها كابنة لها وذلك حتى وفاة الحاجة في عام 1976 في السعودية. كانت جدتي على ما يبدو تشعر بحاجة نفسية لابنة بعد أن حرمها القدر من أن تكون أماً لبنت من لحمها ودمها. لقد أنجبت جدتي أكثر من عشرة أولاد وبنات، لم يعش منهم سوى إثنين، والدي عبد العزيز وعمي جُمعة. وإذا كان "فارس أبو ربيع" قد حصل على كنيته نتيجة لقيام والدي بضمه لعائلتنا، فإن "حليمة البدوية" حصلت على اسم عائلتنا في السجلات الرسمية بعد أن تبنتها ستي وآخاها والدي وعمي. تزوجت العمة حليمة أكثر من مرة، لكنها لم تنجب ولداً أو بنتاً، حتى الجنين الذي حملته معها من الأردن، والذي كان على ما يبدو سبب لجوئها إلى فلسطين، مات قبل أن يرى النور. لقد تم الزواج الأول بمساعدة والدي من رجل أعمال كان يعمل في التجارة، قدم إلى يافا من قرية دوره القريبة من مدينة الخليل، وكان يسكن في "سكنة أبو كبير" في يافا. وفي بيت عمتي حليمة وزوجها أبو العبد قضيت ليالي كثيرة وأياماً جميلة، صاحبت عمتي فيها إلى سوق يافا وبحرها وشواطئها الساحرة. 

No comments:

Post a Comment