Friday, August 23, 2013

مقتطفات من كتاب "التدمير الذاتي العربي: مدخل إلى استراتيجية الدولة الفاشلة

مدخل إلى استراتيجية الدولة الفاشلة
دخل العرب مع الخروج من الأندلس في أواخر القرن الخامس عشر واستيلاء العثمانيين بعد سنوات على السلطة في الدولة العربية الإسلامية مرحلة انحطاط تسببت في خروجهم من التاريخ الحضاري للإنسانية. ومع أن اكتشاف النفط في عدة بلاد عربية في أوائل القرن العشرين أشاع قدراً كبيراً من التفاؤل بقرب حدوث نهضة عربية شاملة، إلا أن ظهور النفط في أكثر بقاع العالم العربي تخلفاً تسببت في تخلف العرب نسبيا من النواحي الثقافية والفكرية والعلمية والاقتصادية والتكنولوجية عن أغلبية شعوب العالم. ولقد اتصفت تلك المرحلة، خاصة بعد هزيمة العرب أمام إسرائيل في عام 1967، بالتخبط السياسي والتشتت الفكري، وتراجع ثقافة الإنتاج لحساب ثقافة الاستهلاك، وسيطرة نظم حكم فردية مستبدةً، وشيوع فكر ديني محافظ لا يعترف بحق الآخر في الاختلاف. وفي ضوء تلك التطورات، اتجه عامة الناس ببطء ولكن بثبات نحو التزمّت الديني والإيمان بالخرافات ونظرية المؤامرة التي تغرس الإحباط في النفوس، ما جعل المد الثقافي والتفكير العلمي ينحسر، ويخيم اليأس بدل الأمل، وتنطفئ شعلة النهضة الثقافية والاجتماعية التي أشعلها المثقفون العرب من جيل الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين.
تتصف المجتمعات التي يسودها الجهل كالمجتمعات العربية بالانغلاق الفكري والتعصب الإيديولوجي والميل إلى العزلة عن العالم وذلك لأن الجهلة من الناس، حتى وإن حمل بعضهم شهادات جامعية، ليس بإمكانهم التفكير بوعي واستيعاب ما يدور حولهم من تطورات حياتية وتحولات كونية. وهذا يتسبب عادة في دفع عامة الناس إلى البحث عمن يقودهم ويحرمهم من الحرية ويصادر وإرادتهم ويحولهم إلى تابعين. أما من يدعي الثقافة من أولئك الناس، فإن عدم قدرتهم على فهم تعقيدات الحياة واستيعاب معطياتها يجعلهم يرتمون في أحضان أقرب بيت إيديولوجي دافئ يُصادفهم في الطريق. وفي غياب الحرية والوعي التاريخي والدولة التي تعي أهمية العلم والتعليم والفكر والثقافة والإبداع الفني، لم يجد القاصر العربي سوى الدين يلجأ إليه بيتاً إيديولوجياً يرتمي في أحضانه، يدافع عنه بقوة، ويروج مقولاته بإيمان، غالباً من دون أن يقرأ حرفاً منها أو يفهم شيئاً من جوهرها. 
من ناحية أخرى، اتجهت نظم الحكم العربية عامة نحو تبني سياسات تقوم على كبت المواطنين ووأد روح المبادرة الفردية والقيادة الجماعية، وحرمان الناس من فرص التحرر من التقاليد البالية والهياكل الاجتماعية التي عفا عليها الزمن منذ زمن، ومحاربة الفكر المستنير، وتأسيس نظم حكم فردية فاسدة ومستبدة. ولقد قامت تلك النظم باحتكار السلطة والسيطرة على المؤسسات الاقتصادية والثقافية والإعلامية وتوظيفها للإثراء على حساب الأوطان والشعوب ومستقبل الأمة، كما قامت بتشييد أجهزة القمع والتحكم الرسمية (بوليس، وجيش، وبيروقراطية، ومخابرات، وإعلام) وتوجيهها لإذلال المواطنين والهيمنة عليهم، وهدر أموالهم والتجسس على المثقفين والمفكرين ودعاة الحرية منهم، وتزييف وعي الجماهير بوجه عام وإقناعهم بأن ليس بالإمكان أفضل مما كان. نتيجة لهذه السياسات، تحول الجهل والتخلف المقترن بالفقر والحاجة إلى ثقافة شعبية أساسها القناعة حالت وما تزال تحول دون حدوث تقدم نوعي في أي مجال من مجالات الحياة العربية.
في ضوء تخلف العرب اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وعلمياً وتكنولوجياً، وضعفهم عسكرياً وتشتتهم سياسياً وفكرياً، وبسبب ما لديهم من ثروات نفطية كبيرة أصبحوا بمثابة فرصة استثمارية نادرة شجعت القوى الاستعمارية القديمة والجديدة على استغلالها. لذلك اتجهت تلك القوى إلى العمل على تكريس تخلف العرب والهيمنة عليهم، والتحكم في مواردهم، وحرمانهم من فرص التقدم والتحرر والوحدة. ولما كانت تكاليف الحروب تتزايد يوماً بعد يوم، فيما كانت احتمالات النصر تتراجع سنة بعد أخرى، فإن القوى الاستعمارية قررت على ما يبدو تبني استراتيجية عسكرية سياسية جديدة تتصف بضئالة تكاليفها المادية والبشرية وارتفاع احتمالات نجاحها. وتقوم الاستراتيجية المعنية على خطط وبرامج تشمل تكتيكات عسكرية واجتماعية وثقافية ونفسية وإعلامية ترمي إلى تحويل كل دولة مُستهدفة إلى "دولة فاشلة" لا تستطيع بسط سيادتها على كامل أراضيها وشعبها، ما يجعلها عاجزة عن تحقيق أي إنجاز يُذكر، وبحاجة دائمة لحماية أجنبية.
تحاول هذه الدراسة تحليل هذه الإستراتيجية الشريرة وطرق تطبيقها وكيفية عملها، وشرح أبعادها وتبعاتها على حياة الشعوب التي تقع فريسة لها، وتقييم مدى ما حققته من نتائج على مختلف الساحات العربية. لكن قبل الدخول في صلب الموضوع، سوف نحاول بسرعة تحليل أسباب الضعف العربي، وحال الأمة العربية، ومدى صلاحية الديمقراطية الغربية للعرب. كما سنقوم بالحديث بشكل مقتضب عن الإسلام ودوره في الحياة العربية، وتحديد طبيعة المرحلة التي يمر بها وتبعاتها المتوقعة على مستقبل الإسلام والأمة العربية ونظرة العالم إلى الإسلام والمسلمين بوجه عام. ونقدم في نهاية الدراسة مشروعاً لنظام ديمقراطي يتجاوب مع حاجات الأمة العربية، آخذين في الاعتبار التطورات الدولية المتتابعة وتيارات التحول المستقبلية المتوقعة.



No comments:

Post a Comment