Tuesday, August 27, 2013

مقتصفات من كتاب "التدمير الذاتي العربي: مراجعة تاريخية سريعة

مراجعة تاريخية سريعة



كان التحرر من الاستعمار الغربي في أعقاب الحرب العالمية الثانية بداية دخول العالم العربي بقياداته الفكرية والثقافية والسياسية خضم عملية التطور العالمي بكافة أبعادها الحضارية. وعلى مدى عقدين من الزمن عاشت الشعوب العربية فترة انتعاش نفسية وثقافية شهدت ميلاد فكرة الحرية الفردية، وتراجع العشائرية، والتطلع بعين الأمل نحو تحقيق وحدة عربية وعدالة اجتماعية، ومناجاة فلسفات القومية والماركسية والديمقراطية. لكن تدخل الاستعمار إلى جانب نظم الكبت السياسي والتيارات الثقافية المناوئة لفكرة الوحدة العربية، وتزايد خطر الكيان الصهيوني على الوجود العربي أدى إلى توقف المد القومي التحرري. إذ أن التقاء القوى المعادية لتطلعات الشعوب العربية داخل الوطن العربي وخارجه حول أهداف مشتركة دفع تلك القوى إلى التضامن وملاحقة النخب العربية التي نادت بالوحدة والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتقدم العلمي والاقتصادي واضطهادها. وقبل أن ينقضي عقد الستينيات من القرن العشرين، تذوق العرب مرارة الهزيمة ثانية على يد إسرائيل، ما أدى إلى سقوط الشعارات التقدمية ودخول العرب مرحلة من الاحباط والانحطاط والاستكانة. ولقد نتج عن ذلك عودة القيم التقليدية التي عفا عليها الزمن إلى الهيمنة على الشارع العربي، واستبدال أقنعة التخلف القديمة المهترئة بأقنعة تبعية مزركشة صُنعت في بريطانيا وأمريكا وفرنسا وغيرها من دول معادية. 


تبلورت حركة القومية العربية بزخمها الحقيقي بين أوائل الخمسينيات ومنتصف الستينيات من القرن العشرين. وفيما كان التيار القومي يعمل بنشاط ويقدم التضحيات، كان لديه قناعة بحتمية قيام وحدة سياسية تضم كافة الأقطار العربية، إلا أن هزيمة العرب أمام إسرائيل عام 1967 قضت على تلك التخيلات والآمال الجميلة. لقد أدت تلك الحرب، بين أشياء أخرى، إلى هزيمة الفكرة القومية، وفكرة العدالة الاجتماعية، والعمل الحزبي المنظم، والتوجه نحو القبول بالهزيمة والاستكانة بدلاً من التوجه نحو مواجهة التحديات المصيرية. لذلك لم يعد هناك وجود لأحزاب سياسية قومية، ولا إرادة لتحقيق وحدة سياسية، ولا حتى وحدة موقف بين الدول العربية، كما لم يعد هناك وجود لنظم تقدمية، إذ تحولت كل نظم الحكم العربية إلى نظم إقليمية فاشلة ومستبدة. في ضوء تلك التطورات، تحولت أغلبية القيادات القومية إلى قيادات "وطنية" أو دينية، ارتبطت بنظم حكم قاصرة وتيارات دينية كانت وما تزال عبئاً على نفسها وشعوبها وعلى الوطن العربي بأكمله. 

تبع هزيمة 1967 حصول ردة ثقافة واسعة في الوطن العربي أسهمت في بلورة حركة إسلامية متطرفة جاءت على شكل تيار ثقافي محافظ استولى على زمام المبادرة وأعلن استعداده لقيادة الجماهير العربية نحو "النصر". ولقد قام ذلك التيار بتكفير أفكار الاشتراكية والديمقراطية والعلمانية، وطرح الإسلام بديلاً للفكرة القومية التي كانت تشكل تهديداً حقيقياً لنفوذ القوى الاستعمارية ومصالحها في البلاد العربية. ولما كانت أهداف الحركة الإسلامية تتلاقى مع أهداف دول الغرب الاستعمارية فيما يتعلق بفكرتي الوحدة العربية والاشتراكية والديمقراطية، فإن تلك الدول قامت بتكثيف دعمها للتيار الإسلامي وتشجيعه على التحول إلى حركات سياسية في مواجهة بقايا الحركات القومية والتيارات اللبرالية. وفي أعقاب وقوع الثورة الإيرانية عام 1979، وقيام الاتحاد السوفييتي باحتلال أفغانستان في نفس العام، حصل توافق بين موقف أمريكا وغيرها من دول الغرب الاستعمارية على ضرورة هزيمة الاتحاد السوفييتي، ما دفع تلك القوى إلى التعاون مع الإسلام السياسي بشكل مباشر كما حدث في أفغانستان، وبشكل غير مباشر كما حدث في فلسطين ومصر وتونس، ويحدث اليوم في سورية. وتشير الكثير من الدراسات والوثائق إلى أن أجهزة الاستخبارات الغربية قامت منذ خمسينيات القرن العشرين بتأسيس علاقات مع قادة الحركات الإسلامية، خاصة الإخوان المسلمين، مكنتها من تحويل بعضهم من دون وعي إلى عملاء يعملون في خدمتها وخدمة قوى الرأسمالية العالمية. وبسبب حساسية هذا الكلام، سوف نخصص لها جزءاً خاصاً ضمن الفصل الذي يناقش "الحركات الإسلامية والعصر"، نتحدث فيه بشيء من التفصيل عن علاقة الإخوان المسلمين بالغرب كما جاءت في كتابات محللين ومؤرخين أمريكيين وأوروبيين. 

كان من نتائج مشاركة العرب في حرب أفغانستان شيوع فكرة الجهاد، واتجاه قطاع كبير من الشعوب العربية نحو التزمت والانغلاق الفكري والتفرقة ضد غيرهم من الناس على أساس الدين. وفي ضوء سيادة الجهل المرتبط بتقاليد وخرافات قديمة، والسماح لكل من هب ودب بالإفتاء في أمور الدين والحياة، اكتسب التطرف الديني شرعية اجتماعية ثقافية، ما جعل التحرر والانفتاح يبدو كأنه خروج على الدين والتقاليد والتراث. ومن أجل تكريس هذه الحالة الشاذة، قامت بعض الدول النفطية والعديد من أثرياء النفط بتوظيف جزء من أموالهم لتشجيع التطرف الديني عن قناعة أحياناً، وعن جهل أحياناً أخرى. نتيجة لذلك شاع الفكر التكفيري، وأصبحت مواقف نفي الآخر وإقصائه واجب ديني وأخلاقي، كما أصبحت إثارة النعرات الطائفية والمذهبية سياسة غربية إسرائيلية لتجزئة الشعوب العربية وضمان الهيمنة عليها. وفي ظل هذه الظروف، فقدت التعددية الثقافية شرعيتها، وتم تزييف الوعي العربي بوجه عام، ما تسبب في تخلف العقل العربي وجمود الحراك الاجتماعي والثقافي الذي بدا واعداً في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. 

من ناحية أخرى، جاءت المشاركة العربية في حرب أفغانستان خدمة للمصالح الأمريكية لتجعل العمالة لأمريكا خدمة للإسلام والمسلمين وجهاداً في سبيل الله والدين، كما جعلت قتل من تختلف معه في الرأي، حتى وإن كان مُسلماً، قضية جهادية. نتيجة لذلك أصبح الجهل والتعصب الديني والتخ الفكري والفساد والانحراف الأخلاقي صفات تميز العرب عن بقية شعوب العالم في عصر المعرفة والعلم والتعدد الثقافي والعولمة. وفي الواقع، إذا قمنا بتحليل إنجازات العرب الحضارية منذ الثورة النفطية حتى اليوم، آخذين في الاعتبار الفرص التي أضاعها العرب والأموال التي بددوها والموارد البشرية التي قاموا بكبتها وتهجيرها إلى خارج الوطن العربي، فإن العرب ربما كانوا أكثر الأمم فشلاً في تاريخ البشرية المعاصر

No comments:

Post a Comment