Friday, October 11, 2013

ذكريات تأبى النسيان: مقتطفات من كتاب الشتاب: اغتيال الطفولة

اغتيال الطفولة
بعد صدور قرار التقسيم في الثاني من نوفمبر 1947 أخذت العصابات اليهودية تكثف هجماتها على المدن والقرى الفلسطينية بهدف إرهاب العرب ودفعهم على الرحيل من مدنهم وقراهم. كما اتجهت أيضا إلى الاعتداء على القوات البريطانية بهدف تسريع عملية رحيلها عن فلسطين. إذ مع قيام بريطانيا باتخاذ قرار بالرحيل، إلا أن قواتها انسحبت على مراحل من أجل الحيلولة دون وقوع مجازر ضد العرب تتحمل بريطانيا مسئوليتها الأخلاقية أمام العالم، ومن أجل تسليم المناطق التي خصصها قرار التقسيم لليهود سلمياً بقدر الإمكان. أما الحركة الصهيونية فكانت تخشى وصول الجيوش العربية للدفاع عن فلسطين ما قد يتسبب في حرمانها من تحقيق أهدافها المرسومة وزيادة خسائرها في الأموال والأرواح. 
 قبل نهاية عام 1947 كانت يازور قد أصبحت هدفاً رئيسياً لهجمات العصابات اليهودية، إذ أصبح العدوان يتكرر بشكل يومي تقريياً. وفي أوائل شهر ديسمبر من ذلك العام شنت تلك العصابات هجوماً واسعاً على أحد مقاهي القرية تسبب في وقوع عدة ضحايا بين قتيل وجريح. ولكن لم تمضِ أيام قليلة حتى انتقمت يازور لأبنائها بقتل سبعة جنود من اليهود كانوا قد دأبوا على استفزاز القرية وإدخال الرعب إلى قلوب أطفالها، حيث كانوا يقومون باختراق القرية في رابعة النهار في سيارة مدججة بالسلاح كل بضعة أيام وإطلاق النار بكثافة في كل اتجاه. ففي يوم 22 ديسمبر 1947، قام بعض شباب يازور، يساعدهم شاب ألماني متعاطف، بإعداد عبوة ناسفة وضعوها على جانب الطريق الدولي، وذلك استعداداً لمرور سيارة الجنود اليهود. وحين مرت السيارة بالقرب من العبوة الناسفة، سارع الشباب إلى تفجيرها عن بعد باستخدام سلك ربطوه في بطارية سيارة عادية ومرروه تحت الأرض. وحال وقوع الانفجار، اشتعلت النيران في سيارة الحراس وسقطوا جميعاً على الأرض بين قتيل وجريج هرب بعضهم إلى داخل البيارة المجاورة. وما أن دخلوا البيارة حتى استقبلهم بعض شباب القرية بالسلاح حيث قاموا بملاحقتهم وقتلهم جميعاً ودفنهم.
في أعقاب تلك الحادثة، أصدر "إيغال يادين" قائد عمليات "الهاجاناه" أمراً إلى إيغال ألون قائد وحدة "البالماخ" بمعاقبة يازور بقسوة... كانت البالماخ عصابة إرهابية خاصة تعمل ضمن إطار قوات الهاجاناه. ومما جاء في ذلك الأمر: "عليك القيام بأسرع وقت ممكن بعملية ضد يازور، بهدف إزعاج القرية فترة طويلة، عن طريق القيام بعمليات تسلل إلى داخلها وإحراق عدد من المنازل". بعد ساعتين من الأوامر، قامت مجموعة تابعة لـعصابة البالماخ بشن هجوم على سيارة باص بالقرب من مدخل يازور الشرقي تسبب في جرح السائق وعدد من الركاب، وقامت مجموعة أخرى بالاعتداء على حافلة على مدخل يازور الغربي من جهة يافا. استمرت هجمات العصابات اليهودية على القرية وعلى السيارات العربية المتجهة منها وإليها عشرين يوماً وليلة على التوالي دون توقف، قامت المعتدون خلالها بتفجير العبوات الناسفة بالقرب من عديد المنازل في أطراف القرية، تسببت في هروب غالبية سكانها واللجوء إلى البلدة القديمة.
وفي يوم 22/ 1/1948، بعد مرور شهر كامل على مقتل الجنود السبعة، قامت قوات الهاجاناه بعملية واسعة ضد يازور، اشتملت على نسف مصنع الثلج والكحول وبنايتين مجاورتين لهما، ومهاجمة بعض البيوت الواقعة في أطراف البلدة. أسندت قيادة الهاجاناه مهمة التخطيط لإسحاق رابين، ضابط عمليات التخطيط العسكري وشارك في تنفيذ العملية أكثر من مجموعة إرهابية. تقرر البدء في الهجوم مع بزوغ فجر ذلك اليوم الشتوي الممطر بانطلاق القوات الغازية عبر بيارات البرتقال من الشمال والغرب والجنوب، حيث قامت بنسف مصنعي الثلج والكحول الواقعين في طرف القرية على حدود يافا، ومهاجمة بعض المنازل المجاورة وتدميرها، ما حول تلك العملية إلى مجزرة أسفر عنها قتل عدة أشخاص من بينهم حراس المصنعين. وفي تلك الليلة بالذات، وضمن حملة إرهاب يازور وسكانها، نجح الإرهاب اليهودي في تهجير عشرات العائلات من سكان البيارات الواقعة على أطراف البلدة، كانت أسرتنا واحدة منها، حيث قام المجرمون باغتيال طفولتنا، ووأد أحلامنا، ومصادرة أملاكنا ومهد ذكرياتنا، وإجبارنا على مغادرة بيتنا وبيارتنا والافتراق عنهما إلى الأبد.فيما كنا نغط في نوم عميق في بيتنا الوديع الذي تحتضنه أشجار البرتقال من كل جانب، صحونا على صوت انفجار مخيف، ورأينا ناراً يتصاعد لهيبها من بيت أحد أقربائنا يقع على بعد 500 متر تقريباً من بيتنا. وفي ضوء الاعتداءات اليهودية المتواصلة ظن والدي أن من الممكن أن يكون بيتنا مُستهدفا أيضاً، وأن العصابات الإرهابية ربما كانت في طريقها إلينا. لذا سارع إلى لف كل واحد من أبنائه وبناته باللحاف الذي كان يغطيه، والمصنوع من الصوف المبطن بقماش قطن ناصع البياض، وركض به نحو البيارة. وهناك رمى الطفل في الوحل تحت شجرة برتقال تبعد عشرات الأمتار عن البيت، وتركه وحيداً يرتعد من الخوف والبرد وتساقط الأمطار. كان الجو في تلك الليلة ممطراً وكان المطر غزيراً جداً، وكان البرد قارصاً والليل حالك السواد، ربما كانت تلك الليلة أسوأ ليلة في تاريخ الإنسانية بالنسبة لطفل بلا ملابس دافئة، وبلا حذاء، وبلا غطاء، وبلا قدرة على رؤية أي شيء، وبلا مكان يهرب إليه أو يحتمي به، وبلا شعور إنساني سوى رهبة مرعبة وخوف مميت. وفي الواقع، لم تحتفظ مخيلتي بليلة أكثر سواداً وأغزر مطراً وأشد برودة وأكثر خوفاً من تلك الليلة. وحتى يضمن الوالد نجاة بعض أولاده وبناته من الموت في حالة تعرضهم لقنبلة أو نيران رشاشات، قام بوضع كل واحد منهم تحت شجرة تبعد عدة أمتار عن أقرب شجرة يرقد تحتها طفل آخر. وبعد أن أكمل مهمته، بدأ والوالدة يتنقلان من شجرة لأخرى، يربتان على رؤوسنا، يتمتمان بالدعوات لنا، ويًتْلون بعض آيات القرآن كأنهم يقرؤونها على رأس ميت، ويقبلوننا قبلة ظنوا أنها ربما كانت قبلة الوداع الأخيرة. كنت ارتجف من البرد والخوف والعتمة حتى كاد قلبي يتوقف عن النبض، ويغفو غفوته الأخيرة من دون أن يكون باستطاعتي أن أبكي أو أنطق بكلمة واحدة، حتى التنفس حاولت أن أكتمه كي لا يسمع الإرهابيون همساته الضعيفة. كان سواد الليل وعنفوان المطر وصوت الأشجار تهزها الرياح تتراءى لي كأشباح مخيفة جاءت لتحملني إلى الجحيم، وتلقي بجثتي في نار جهنم.مضت ساعة من الوقت تقريباً دون أن نسمع صوت انفجار أو إطلاق نار، كانت بعمر الزمن وقسوة تاريخ الظلم. نهض بعدها والدي، جمعنا بعيداً عن البيت بعشرات الأمتار، وأخبرنا بأنه قرر الذهاب إلى بيت أولاد عمه في البلدة القديمة. سرنا ممسكين بأيدي بعضنا البعض، نرتعد من الخوف والبرد، حفاة شبه عراة، يقرص البرد أقدامنا ووجوهنا، ويثقل الطين والمطر ومستنقعات الوحل خطواتنا، وتلون العتمة عيوننا التي ظننا أنها فقدت قدرتها على الرؤية. لم يجرؤ الوالد على العودة إلى بيته الذي بناه بيديه وقضى سنين من عمره في تزيينه وزراعة الورود من حوله، وذلك خوفاً من  ان يكون الإرهابيون قد اقتحموه وجلسوا فيه في انتظار عودتنا كي يقتلونا بعد أن اغتالوا الحلم في رؤوسنا والطمأنينة في قلوبنا والأمل في عيوننا. لم نحمل شيئاً من ملابسنا أو ممتلكاتنا الشخصية بالطبع، حتى الألحفة التي كانت تغطي أجسادنا تركناها خلفنا، لأنها كانت مثقلة بالوحل والطين بحيث لم يكن بالإمكان حملها، ولم يعد بإمكانها وقايتنا من البرد. وهكذا تسببت أحداث تلك الليلة في قطع علاقتنا ببيتنا وبيارتنا وكل ما كان في البيت من أشياء ووثائق ومجوهرات ومال، لكنها تركت لنا حب الوطن وذكريات تأبى النسيان.


Wednesday, October 9, 2013

غرباء

غرباء

احملْ ظنونك وارحلْ اليوم عني
لم تكنْ يوماً أنت مني
حَيرتَ عقلي
عَذبتَ قلبي
عذبتَ روحي
أثخنتْ حُبي بالجراح
وكدتَ أن تسرقَ العمرَ مني

لم أرَ الفرحَ في عينيك يوماً
لم أرَ الحزن في عينيك يوماً
لم أستشعرَ الحبَ في قلبك يوماً
لم أعرف الحلم بجوارك يوماً
جحيمٌ أنت لا يعرفُ غير التجني
احملْ جُنونك وارحلْ اليوم عني
لم أكنْ أنا منكَ يوماً
ولم تكنْ يوماً أنتَ مني
محمد ربيع