Saturday, August 24, 2013

ذكريات تأبى النسيان: مقتطفات من الجزء الأول، الشتات

نَبْض الحياة
عشت حياتي منذ الصغر كرحلة شوق بلا نهاية، حملتني إلى أماكن بعيدة ودول عديدة وشعوب مختلفة الثقافات واللغات والقضايا والتركات الحضارية والتطلعات المستقبلية... أمم وشعوب تعيش في ظل أوضاع سياسية وثقافية واجتماعية متباينة، وظروف اقتصادية ومستويات حياتية متفاوتة.. أقمت طالباً وأستاذاً جامعياً وباحثاً في بلاد عديدة وأماكن جميلة، وشاركت في صنع أحداث مثيرة أدخلتني في تجارب فرح ومرح وحزن وسعادة ومعاناة وعذاب وألم لا يطاق أحياناً. كانت هناك تجارب عشتها تحت ضغوط قاسية، وأخرى عشتها في ظل وعود زاهية زائفة، وتجارب مع مذاق متعة لا مثيل لها، ونشوة ألم على طريق شفاء يستأنس طعم الألم. كانت حياتي وما تزال حكاية ولادة وموت وتجدد وأمل وخيبة أمل متواصلة... أمل في حياة مستقبلية حيث يولد الأمل وينمو الحب ويترعرع على ضفاف الخيال، ويُبحر الشوق في بحر هائج بلا ربان، ويتجذر العشق في ثنايا الروح بلا وعي، ويتجدد الفكر ويعيد صياغة نفسه بلا انقطاع، ويختزن الضمير ما يحلو له من تلك المشاعر والتجارب بشغف طفل يتعلم المشي لأول مرة. وكي أعيش حياتي كما يجب أن تكون عليه الحياة، واستمتع برحلتها إلى أقصى حدود المتعة الممكنة، كان علي أن أتمرد على الكثير من الأعراف العائلية، التقاليد المجتمعية السائدة، والأفكار العقائدية الجامدة، ونظم الحكم السياسية المستبدة، والنعرات العنصرية، والقيم الاجتماعية المكبلة للفكر والعقل والحرية.
عشت بداية حياتي ككل طفل يعيش حياته دون أن يفكر في مستقبله، لكن العقل، وكما اكتشفت لاحقاً، يختزن كل شيء ويُعيد استحضاره حين تتوفر ظروف معينة، وهذا ما حدث بالنسبة لي، إذ أعاد العقل الباطن استحضار تجربة سنوات طويلة تحت ضغوط هزيمة عام 1967، وما فرضته أحداث تلك الهزيمة وتبعاتها من مراجعة. إذ فيما كنت أتجول وحيداً في جبال جاتلنبيرج وغاباتها الكثيفة في ولاية تينيسي الأمريكية، أتأمل عظمة الطبيعة واستمتع بروعة حُسنها وشُموخها ورونق أزهارها، وأصغي لهمس الشجر وشدو العصافير، وأتابع غروب الشمس بشوق، شعرت بأن شيئاً ما يتغير في داخلي... شعرت بأن هناك شيئاً غريباً يُولد بهدوء في أعماق ذاتي. كان قراري في أعقاب الهزيمة بعدم التحدث مع أي عربي لمدة أسبوعين على الأقل على ما يبدو هو الصدمة الساكتة التي أيقظت الوعي من سباته العميق، وأعادتني إلى حالة من الوعي لم أختبرها من قبل... صدمة فجرت ينابيع المعرفة الكامنة في أعماقي ودفعتها إلى التدفق بغزارة والصعود إلى الرأس، تاركة خلفها ذاكرة مُشبعة بذكريات تأبى النسيان.
جاء قراري بعدم التحدث مع أي عربي لمدة أسبوعين تحت إلحاح الرغبة في التعرف على الأسباب الحقيقية للهزيمة بعيداً عن محاولات التبرير التي يُجيدها العرب عامة، ومن أجل البحث عن وسيلة للخروج من الأزمة بعيداً عن غوغائية العقائدية ولوم الآخر. لقد حملتني تلك الصدمة إلى الماضي البعيد لأتذكر ما فات من حكاية عمري وأحداث طفولتي، وأشاهد فصول تلك الحكاية تعود في صورة خيالات وأحلام يقظة تعيد تشكيل ما وقع في الماضي من أحداث كشيء حي. شاهدت ذكريات الطفولة والصبا والشباب تعود باكية مبتسمة عاتبة، تمر أمامي شريطاً سينمائياً تراه عيني كأطياف غروب على وجه شمس تستعد للهروب في حضن بحر هادئ، وزهر برتقال وليمون يعطر هواء "يازور" ويغمر البيت من كل جانب، ورائحة زعتر بري يكسو سفوح الجبال المجاورة لمدينة رام الله، وكروم عنب وتين قرية جفنه وخربة أبو قش وعلى مقربة منها وقد حان قطافها، وخيام لاجئين يعانون البؤس والفقر والظلم تغطي أرضاً صحراوية قاحلة على مشارف مدينة أريحا، وعواصف رملية تداعب خيام البؤس والحرمان بقسوة وشراسة تدمي العيون وتحرق الشجيرات الصغيرة المتناثرة هنا وهناك، وأنوار صاخبة تُغرق شوارع القاهرة وتسرق البصر من المارة وتحجب الرؤية عن الأنظار، وأحلام لا تحدها أحلام يعيشها الناس في ألمانيا وأمريكا... تذكرت أشياء أخرى غريبة، صغيرة وكبيرة، قال لي والدي فيما بعد أن بعضها وقع قبل أن أكمل الثالثة من العمر.
كانت تلك التجربة حدثا مهما في حياتي جعلني أدرك أن العقل الباطن لا يختلف كثيراً عن جهاز كمبيوتر يختزن في داخله كل ما يسجل صاحبه على شاشته الصغيرة من ذكريات وأحداث، لكنه يُخزنها على شكل صور وخيالات لا تخضع لنظام محدد، إذ يبدو أن العقل يضع ملفاته في أمكنة مختلفة لا تحمل أرقاماً ولا عناوين ولا تواريخ، ما يجعل عملية البحث عنها وإعادة تصفحها صعبة، وأحياناً مُضنية تحتاج لوقت طويل. في بعض الأحيان، نحاول أن نتذكر اسم شخص أو عنوان كتاب أو مكان دون فائدة، لكن، وبينما نغط في نومنا، نستيقظ فجأة على همس داخلي يُذكرنا بما كنا نبحث عنه... ذلك هو دور العقل الباطن، الاحتفاظ بكل معلومة هامة ومساعدتنا على استعادتها عند الحاجة. إن هيمنة العقل الإنساني على نشاطاتنا اليومية وقراراتنا يجعل من الصعب علينا إيقاظ العقل الباطن من سباته، إلا حين يغفو العقل الظاهر، أو حين نمنحه إجازة كي يرتاح مؤقتاً ويتنازل راضياً عن دوره في حياتنا اليومية. إن عقل الإنسان يعمل طوال ساعات النهار دون توقف، ما يقوده إلى إغراق صاحبه في دوامة من القضايا والمعارك الآنية المُتعبة ذات الصلة بأمور الحياة اليومية. وحيث أننا لا نستطيع أن نعيش وندير أمور حياتنا ونستمتع بها من دون التعامل مع المشاغل والفرص التي تُواجهنا، ومن دون خوض ما قد يترتب على ذلك من معارك، فإن العقل الظاهر يهيمن عادة على حياتنا ويعزل العقل الباطن عن مسرح الأحداث، يتركه يراقب ويُقيّم ويُدون عن بعد.
لذلك كان على الإنسان الذي يود أن يرى ما في داخله، وأن يستعيد ذكريات يظن أنها دُفنت تحت ركام الأيام والأحزان والأحداث المتلاحقة، عليه أن يعطي عقله الظاهر إجازة قصيرة، يستغلها في التواصل الواعي مع عقله الباطن... ضميره الذي لا ينام، ولا ينسى شيئا مهما، ولا يُفوِّت فرصة من دون تسجيل ما هو مؤثر من أحداث وأحاديث ومشاعر. ومنذ ذلك اليوم، وعدتُ نفسي أن أحكي حكاية عمري لها بين الفينة والأخرى، وأن أتذكر وأسجل واستعرض ما استطعت من أحداثها ومحطاتها العديدة المهمة، وهي محطات تكاثرت بسرعة فائقة لم أكن أتوقعها، ومن النادر جداً، إن لم يكن من شبه المستحيل، أن يعيشها إنسان واحد في غضون عمر واحد مهما طال ذلك العمر. وكي لا أنسى، واظبت على سرد تفاصيل الحكاية لنفسي أثناء السفر في الطائرة والتجوال في الغابات، وأثناء خلودي للراحة في فراشي بعد يوم عمل مضن، وإضافة ما استجد من أحداث مهمة إلى مخزون الذاكرة، والخلوة مع ذاتي بين الحين والآخر كي تبقى الذكريات حية في الوجدان، تستنشق هواء الحرية وتجدد ذاتها بذاتها.

والآن، بعد رحلة عمر طويلة أخذت تقترب من خط النهاية، رأيت أن من واجبي أن أسطر رحلة حياتي وتجربة عمري على الورق لتكون في متناول الناس جميعا... في متناول يد كل من يحب القراءة، وكل من يهوى المعرفة، وكل من يريد أن يعايش بعض أحداث الماضي في فلسطين والأردن ومصر والكويت ولبنان وألمانيا وأمريكا والمغرب وغيرها من بلاد العالم. تجربة تصف مشاعر من يتشوق للقيام بمغامرة جديدة في ربوع غابة كثيفة تسكنها الغزلان وتعطرها أزهار برية... مشاعر من يعشق الحب وحب الطبيعة... قمر لمن يحلم بقضاء ليلة مثيرة على صدر عشيقة فاتنة، ومنارة تضيء الطريق لمن يبحث عن حياة جديدة مُنتجة وفكر خلاق مُختلف... من يبحث عن أمل يعيد له الثقة بالنفس وبالحياة وبقدرة الإنسان على صنع مستقبله بنفسه. حكايتي طويلة بطول سنوات التشرد من الوطن، ومرهقة بقدر متاعب البحث عن وطن في غياب الوطن، وصعبة بقدر حجم خيبة الأمل في العثور على وطن بعد عشرات السنين، وعميقة بعمق محنة الشتات ومعاناة الشتات وقسوة عيون الشتات الباهتة، وحزينة بحزن أمل واعد يُذبح في محراب الظلم على مرأى من العالم أجمع في رابعة النهار، ومؤلمة بقدر معاناة حياة لم تتذوق طعم الاستقرار أو الطمأنينة يوما، وساحرة بسحر غروب فوق بحر تعلوه سحابة صيف ضائعة... نعم ضائعة... فكل حكاية عمر هي قصة ضياع مثير... رحلة في المجهول لا نعرف بدايتها ولا نعرف نهايتها، ولا نعرف كيف سيراها الغير ويفهمها، ولا كيف ستحكم عليها الأزمنة والأجيال القادمة.
 

No comments:

Post a Comment