Tuesday, December 10, 2013

الهوية والهوية القومية

الهوية والهوية القومية

تعتقد أغلبية الناس والمعنيين بقضية الهوية من المثقفين أن الهوية الجماعية هي جزء من الثقافة الشعبية، وأن مصيرها مرتبط بمصير الثقافة، ما يستدعي الحفاظ على الثقافة التقليدية بغض النظر عما تعانيه من تخلف وتشرذم. لكن هذا الاعتقاد خاطئ لأن هناك شعوباً عديدة ذات ثقافات متشابهة لكنها ذات هويات جماعية مختلفة وأحيانا متناقضة.
هناك ثلاثة مصادر رئيسية لكل هوية جماعية: أولاً، الشعور بالانتماء إلى عقيدة واحدة أو وطن أو شعب واحد. ثانياً، الاعتزاز بشخصيات عامة تشكل رموزاً للجماعة بسبب مواقفها وفكرها وتاريخها الذي قامت من خلاله بتجسييد مصلحة العقيدة أو الوطن أو الشعب المعني. وثالثاً، الشعور بوحدة من ينتمي إلى العقيدة أو الوطن أو الشعب المعني من الناحية الثقافية والموقف من الآخر، خاصة فيما يتعلق بالإرث الحضاري والشعور تجاه المستقبل. وهذا يعني أن الهوية الجماعية لا تعني الإنتماء إلى أصل أو جنس أو عرق، بل ترتكز على وحدة الثقافة وحب الوطن والشعور بأن التحديات المستقبلية واحدة والمصير مشترك.
يعود أصل كلمة "قومية" إلى تأسيس الدولة الحديثة في أوروبا إبان عصر النهضة، حيث أطلق عليها اسم Nation State، أي الدولة القومية، علماً بأن معظم الدول القومية الأوروبية كان فيها وما يزال أقليات ثقافية ودينية ولغوية عدة. وهذا يعني أن كلمة "قومية" ليست لها دلالة عرقية أو إثنية، بل دلالة جماعية تشمل المواطنين الذين أصبحوا، بحكم تواجدهم معاً في وطن واحد وانتمائهم إليه، يشكلون شعباً واحداً، وذلك كما هو الحال في أمريكا التي تتكون من عشرات الجماعات ذات الأصول والثقافات المختلفة.
جاءت حركة القومية العربية أساساً كرد فعل على ممارسات الاستعمار الغربي وقيامه بتقسيم الوطن العربي إلى دول ومشيخات تسيطر عليها قيادات ذات أهداف متناقضة لا تصب في المصلحة الجماعية للعرب. ولما كانت الأقليات التي تعيش في الوطن العربي وتنتمي إليه قد سبق وجود معظمها فيه وصول العرب إليه، وأن أغلبيتها تؤمن بالإسلام، فإن كل أبناء هذه المنطقة اعتبروا الإسلام والمسيحية وغيرها من ديانات أجزاء أساسية من مكونات الثقافة العربية والهوية القومية. لكن تدخل القوى الاستعمارية في الشؤون العربية، وقيامها بالعمل على تمزيق الوحدة الثقافية والوجدانية للعرب بهدف السيطرة عليهم واستغلال مواردهم من ناحية، ونجاح الغرب في تأطير قوى الإسلام السياسي وتوظيفها في حربهم ضد القوى الماركسية في أفغانستان من ناحية ثانية أدى إلى إضعاف الهوية القومية العربية. ومع توجه قوى الإسلام السياسي إلى المطالبة بعودة دولة الخلافة الإسلامية، فإن تلك القوى تحولت إلى قوى مناوئة للقوى العلمانية العربية التي نادت بوحدة قومية عربية ورفض الاستعمار.
من جهة أخرى، تسبب فشل الدولة العربية عامة في تحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والحرية لكافة المواطين، ولجوئها أحياناً إلى التفرقة ضد بعضهم في دفع بعض الأقليات، وحتى القبائل والعشائر التي تشكل أهم مكونات الأمة العربية، إلى البحث عن هويات فرعية تقوم على الإثنية والدين والطائفية والعشائرية والثقافة. وهكذا تم تفتيت الشعب الواحد إلى أقليات وأغلبيات يغلب عليها طابع التنافر وليس التآلف، وتسعى إلى التجزئة والانفصال وليس إلى الوحدة والتكامل، ما أدى إلى تخلف العرب وضعفهم ودخول الهوية القومية في أزمة طاحنة.
في آخر محاضرة ألقيتها في المغرب في شهر أكتوبر 2013، قلت للطلبة إن من يؤمن من البشر بفكرة الخلق التي تقول بها معظم الأديان، وكذلك من يؤمن بفكرة التطور التي جاء بها داروين يعلم تماماً أن أصل كافة البشر واحد. إذ فيما تقول المعتقدات الدينية أن آدم وحوا هما أب وأم البشر جميعا، تقول نطرية التطور أن جميع البشر هم من نسل حيوانات تشبه القردة عاشت في القارة الإفريقية. لكن تعرض غالبية سكان إفريقيا لحرارة الشمس بشكل شبه متواصل أدى إلى تحول بشرتهم عبر ملايين السنين إلى السواد، فيما أدى احتجاب الشمس غالباً عن أماكن مثل شمال أوروبا إلى تحول بشرة السكان هناك إلى اللون الأبيض. أما من عاش في مناطق تتصف باعتدال حرارة الشمس وتتابع فصول السنة الأربعة مثل سكان حوض البحر الأبيض المتوسط، فإن بشرتهم تحولت إلى لون قمحي يقع بين الأسود والأبيض. وهذا يعني أنه ليس هناك أقليات وأكثريات عرقية أو إثنية، بل هناك تعدد بشري ثقافي ولغوي يكون في مجموعه سكان الكرة الأرضية التي تضمنا جميعا وتشكل إنسانيتنا.
محمد ربيع


Wednesday, December 4, 2013

العرب والحقيقة

العرب والحقيقة
هناك من الناس من يقول الحقيقة، وهناك من يعمل على تشويه الحقيقة، وهناك من يختلق أشياء يدعي بأنها تجسد الحقيقة. لكن الحقيقة هي في كل هذا وذاك، وليست في هذا أو ذاك، لأنه لا توجد حقيقة مطلقة تجمع عليها كافة الشعوب أو حتى أغلبية العلماء والمفكرين. وفي الواقع، لا يوجد إنسان في العالم بإمكانه معرفة الحقيقة، لأننا لا نعرف تماما ماذا نعني حين نتكلم عن "الحقيقة". مع ذلك، تدعي معظم الديانات السماوية وغير السماوية أنها تملك الحقيقة دون سواها من فلسفات وعقائد، ما يجعلها تسهم بوعي ومن دون وعي في صنع حقيقة قد لا تمت إلى الحقيقة التي تعنينا بصلة.
إن على الإنسان الذي يسعى إلى معرفة الحقيقة أن يقوم بمراجعة تجربة الحياة الماضوية، الفردية والجماعية، وتقييم ما لها وما عليها بحياد وموضوعية. وهذا يفرض عليه أن ينظر إلى الخلف وأن يقوم بدراسة التاريخ والغوص في أعماقه والعبث في مياهه. لكن كي يعيش الإنسان حياته ويتعرف على ما فيها من حقائق ومعطيات، عليه أن ينظر إلى الأمام كي يستطلع آفاق المستقبل، ويستشف ما يحمل بين طياته من احتمالات ومفاجآت سارة وغير سارة.
إن تركيز العرب على التاريخ، والنظر إلى التراث من منظور إيديولوجي يدعي ملكية الحقيقة جعلهم عاجزين عن مراجعة تجربة الحياة الماضوية وتقييم ما لها وما عليها. كما أن إنشغال العرب في قضايا التراث الفكرية والعقائدية جعلهم عاجزين عن العيش تجربة إنسانية عادية كغيرهم من شعوب العالم. ولما كان التاريخ العربي قد صنعته الحروب والصراعات الإثنية والطائفية والقبلية أكثر من أي شيء آخر، فإن المؤرخين العرب قاموا بتزييف ذلك التاريخ، ما جعل العرب يبتعدون عن الحقيقة كثيرا، ويقفون عاجزين عن فهم الحاضر والمستقبل على السواء. وهذا جعل العرب غير راضين عن الحاضر، وعاجزين عن فهم المستقبل، وغير واثقين من أنفسهم ومن أن بإمكانهم الإسهام في صنع المستقبل ومواجهة ما يحمله بين طياته من تحديات. لهذا يعيش العرب اليوم في دوامة من الصراع مع الذات، غير قادرين على تحقيق الحد الأدنى من الوحدة الفكرية أو الثقافية أو السياسية أو الأمنية، تابعين لغيرهم من دول معادية تعمل جاهدة على تكريس فرقتهم وتخلفهم وضياعهم وتجزئة بلادهم واستغلال مواردهم.

محمد ربيع