Wednesday, April 24, 2013

الديمقراطية وثقافة التسامح!



الديمقراطية وثقافة التسامح!
تشير دراسات المعنيين بالقضية الديمقراطية إلى أن إقامة نظام حكم ديمقراطي في بلد ما تستوجب توفر بيئة اجتماعية ثقافية مهيأة لقبول الفكرة الديمقراطية وترجمتها إلى نظام حكم على أرض الواقع. وتتلخص أهم الشروط الكفيلة بخلق بيئة اجتماعية ثقافية مواتية لقيام نظام حكم ديمقراطي في وجود تعددية سياسية، إعلام محايد، وتواجد طبقة وسطى. وتعني التعددية السياسية وجود أكثر من حزب أو تجمع سياسي في البلد المعني، وذلك لإعطاء الناخبين خيارات متنوعة من حيث الفكر وبرامج العمل والرؤية المستقبلية. أما الإعلام المحايد فيعني توفر وسائل إعلامية لديها القدرة على تقصي الحقيقة ونشرها بين الناس من دون محاباة أو انحياز لوجهة نظر معينة دون غيرها. أما الطبقة الوسطى فلا بد وأن تكون قوية وواثقة من نفسها ولديها القدرة على تكوين وعي طبقي يمكنها من تحديد مصالحها بوضوح والدفاع عن تلك المصالح بجرأة. وفي الواقع، لا يمكن تكوين طبقة اجتماعية عُمالية أو وسُطى أو حتى بُرجوازية في أي مجتمع من دون أن تنجح الطبقة المعنية في تطوير وعي طبقي يمكنها من التفكير كمجموعة مميزة والتصرف كفريق واحد ذا مصالح مشتركة وهموم متقاربة وطموحات متشابهة.
مع ذلك تشير تجربتي الحياتية ودراساتي في الفكر السياسي والاقتصادي والقضايا الثقافية والاجتماعية إلى حتمية وجود شرط رابع لضمان إقامة نظام حكم ديمقراطي قادر على الحياة وتحقيق رسالته الإنسانية. إن توفر الشروط السابقة لا يعني بالضرورة اقتناع الناس بشرعية الاختلاف في الآراء والمواقف والمعتقدات الدينية، ما يعني أن هناك ضرورة لثقافة شعبية تتصف بالانفتاح وتعترف بأن لكل فرد في المجتمع حقوقا متساوية مع غيره من المواطنين، وتدعو الناس إلى التعامل مع بعضهم البعض على هذا الأساس.
وفي سبيل الدعوة إلى تنمية مثل هذه الثقافة، اتجه معظم المعنيين بقضايا الحرية والديمقراطية والمساواة إلى استخدام كلمة "تسامح" للتعبير عن ثقافة الانفتاح المطلوبة. لكن كلمة تسامح توحي بأن هناك طرفا قويا يتمتع بقدر كبير من الشرعية والأخلاقية بسبب سلوكياته ومعتقداته الدينية، وأنه يتسامح مع طرف آخر يتمتع بقدر أقل من شرعية الاختلاف في الموقف أو المعتقد الديني، كما هو الحال بالنسبة لما يُقال عن تسامح المسلمين مع أتباع الديانات السماوية الأخرى. وهذا يعني أن التسامح لا يعكس إقرارا بالمساواة بين الناس، ما يجعل كلمة تسامح لا تفي بالغرض المطلوب، وقد تقود إلى شعور فريق بالتميز عن غيره من الناس والاتجاه نحو التفرقة ضدهم.
لذلك حاولت إصلاح هذا الخلل بقدر الإمكان باستخدام مصطلح "التسامح المتبادل"، فيما حاول آخرون مثل الصديق أدونيس استخدام كلمة "مساواة" ورفض كلمة تسامح كليا. لكن المساواة مبدأ في الحكم ذا علاقة بالقانون والدستور المعمول به في البلاد، وليس أسلوب معاملة بين الناس أو موقفا من الآخر يعكس قيمة ثقافية مترسخة في الوجدان. وهذا يعني ببساطة أن كلمة "مساواة" شأنها شأن كلمة "تسامح" لا تصلح للتعبير عن قيمة ثقافية وظيفتها الأساسية تنظيم علاقة الفرد بغيره من أفراد المجتمع بناء على مبادئ الحرية والمساواة والمواطنة. لذلك كان علينا أن نجد مفهوما يفي بالحاجة، ما يجعلني أطرح اليوم كلمة "تآلف" لتحل محل مفهومي التسامح والمساواة. فكلمة تآلف تعني المعايشة عن قرب، وتعكس علاقة ود تقوم على التكافؤ بين طرفين يشعر كل طرف فيها بأنه ند للآخر وشريك له.
التآلف ثقافة تلون مواقف المواطنين تجاه بعضهم البعض في مجتمع مستقر ينعم بالهدوء والطمأنينة. إذ يعكس التآلف ميل الناس إلى تجاوز التعارف والتعايش إلى إقامة علاقات ود فيما بينهم تتخطى المحظورات الأيديولوجية والدينية. وهذا يعني أن التآلف يجعل التنوع الثقافي ثروة مجتمعية تثري حياة كل الناس بدلا من تجزئتهم إلى شيع وأحزاب وطوائف متناحرة. إن من يعود إلى حياة المجتمعات العربية قبل جيلين تقريبا، وهي حياة عشتها بكل سلبياتها وايجابياتها، سوف يكتشف أن التآلف بين المسلم والمسيحي، السني والشعي، العربي والأجنبي، الأبيض والأسود كان حقيقة مفعمة بالحب والمعاشرة والأمل.
الديمقراطية ليست نظام حكم سياسي فحسب، بل هي أيضاً قيمة ثقافية على غاية الأهمية. إذ فيما تقوم نظم الحكم الديمقراطية على مبدأ تكرر الانتخابات وتبادل السلطة بطرق سلمية، تقوم الثقافة الديمقراطية بإرساء مبدأ التعامل بين الناس على أسس المساواة في الحقوق والواجبات واحترام الرأي الآخر والاعتراف بحقه في التعبير عن نفسه بحرية. وإذا كانت الديمقراطية كنظام حكم تعني وضع حد نهائي للحكم الفردي وتسلط مؤسسات الدولة على الشعب، فإن الديمقراطية كقيمة اجتماعية ثقافية تعني وضع حد نهائي لاحتكار أية فلسفة شمولية مثل الدين والقومية شرعية ممارسة الحكم والتحكم في حياة الناس ومقدرات الوطن، والسيطرة على الفكر والثقافة وفرض رأيها على غير أتباعها من المواطنين.
ولما كنت أعتقد أن كلمة تآلف هي أفضل كلمة في اللغة العربية للتعبير عن ثقافة التعايش القائم على المحبة والمساواة بين المواطنين، وأنها تتجاوز كلمة تسامح وتلغي ما فيها من استعلاء وعنصرية مبطنة، فإنني أدعو كافة المعنيين بقضايا الديمقراطية والحرية والمساواة إلى تبني هذا المفهوم وحث الناس على استخدامه قولا وفعلا باعتباره شرطا من شروط الديمقراطية ومبدأ من مبادئها. إن الاتفاق حول المفاهيم يعتبر من الضروريات التي لا يمكن تحقيق توافق حول أية قضية هامة من دونها، ما يفرض على المفكرين والمثقفين العمل على تصحيح المفاهيم الخاطئة وإيضاح معاني المفاهيم التي تحمل أكثر من معنى. إن عدم الاهتمام بهذه القضية وإهمالها من شأنه إثارة مخاوف البعض والاعتداء على حقوق البعض الآخر وتهديد حقوق كل المواطنين. لذلك علينا أن نتذكر دائما كلمة مارتن لوثر كينج قبل أن تغتاله يد العنصرية بسبب مطالبته بالعدل والمساواة: "إن استباحة العدل في أي مكان تُهدد العدل في كل مكان".  
د. محمد عبد العزيز ربيع                      www.yazour.com
كلية الحكامة والاقتصاد - الرباط

الأهداف والوسائل



الأهداف والوسائل 

إن لكل هدف متطلبات متعددة، من بينها خطة عمل تنفيذية في مقدورها تحقيق الهدف المنشود. لكن علينا أن ندرك أن خطط التنفيذ وأسالب العمل لا بد وأن تكون مرنة كي تتعامل مع الظروف الموضوعية المتغيرة والمستجدة في عصر أصبح التغير والتحول الدائم فيه هو الحقيقه الوحيدة غير القابلة للتغير. لذلك كان على كل خطة أن تنطلق من مبادىء ومرجعيات ثابتة تجسد روح الهدف الذي تسعى لتحقيقه، وأن تستخدم أساليب تنفيذ تتصف بالحركية والديناميكية، تتطور تبعا لتغير الظروف، ولا تخاف اللجوء إلى الخطوات المرحلية كأداة تنفيذ. ان غياب المرجعيات والمبادئ يسلب خطة العمل بوصلة الأمان، بينما يقوم غياب الحركيه والديناميكية بتحويل المرجعيات والمبادىء إلى شعارات مفرغة، قد تُصبح مع تغير الأزمنة عقبات على الطريق تحول دون تحيق التقدم.

إن وقوف أي شخص أو شعب عند الثوابت وعدم السماح بتأويلها كي تتصالح مع العصر وتتعايش معه بسلام، يعني قيام الطرف المعني بالحكم على نفسه عمليا بالتخلف عن الزمن، والسماح للغير من أصدقاء وأعداء بالتحكم في مصيره وتزييف إرادته.. وهذه قوى خارجية من طبعها أن لا ترحم حياً كان، وأن لا تترحم على ميت سكون. إن قوى الرفض، العربية وغير العربية، تميزت عبر التاريخ بقدرتها على تحديد القضايا التي تقف ضدها بوضوح، وعجزها عن تحديد القضايا التي تقف إلى جانبها بأمانة، أي أنها تميزت بالعجز عن تقديم بدائل علمية وعملية وعصرية لما ترفض من قضايا وسياسات. لهذا يحب الابتعاد عن مواقف الرفض بقدر الإمكان، والتفكير دوما ببدائل لما هو مطروح من أفكار ومشاريع غير مستحبة، والتطلع دوما إلى الأمام نحو أهداف إنسانية بناء على رؤية تحكمها مبادئ أخلاقية، وتديرها اساليب عمل ديناميكية لا تتوقف عن الحركة.


           د. محمد ربيع                             www.yazour.com

Wednesday, April 3, 2013

الأستاذ محمد ربيع


ولد الدكتور محمد ربيع في يازور/ يافا، وعاش بضع سنوات من طفولته في مخيم عقبة جبر قبل الانتقال إلى مدينة أريحا. تخرج من مدرسة هشام بن عبد الملك الثانوية في أريحا، وتابع دراسته الجامعية والعليا في جامعات مصر وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية. حصل الدكتور ربيع على عدة منح دراسية من جامعات ومؤسسات علمية وثقافية من كل الدول التي درس فيها، كما حصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة هيوستن في تكساس عام 1970. قضى معظم حياته في التدريس الجامعي، حيث عمل أستاذا في عدة جامعات عربية وأجنبية، من بينها جامعة الكويت وجامعة الأخوين في المغرب، وجامعتي جورج تاون وجونز هوبكنز في واشنطن، وجامعة ايرفورت في ألمانيا، وحاضر في أكثر من ثمانين جامعة عربية وأمريكية وأوروبية ومعاهد دراسات إستراتيجية عربية وغربية، كما شارك في عشرات الندوات والحوارات العلمية والثقافية في أكثر من خمسين دولة.
 
نشر الدكتور ربيع 29 كتابا حتى الآن، 17 منها بالعربية والباقي بالإنجليزية. كما نشر عشرات الدراسات العلمية في مجلات عربية وأمريكية وألمانية، وأكثر من ألف مقالة صحفية. من بين كتبه بالعربية: هجرة الكفايات العلمية، الاقتصاد والمجتمع، الوجه الآخر للهزيمة العربية، صنع السياسة الأمريكية والعرب، المعونات الأمريكية لإسرائيل، الحوار الفلسطيني الأمريكي، صنع المستقبل العربي، القيادة وصنع التاريخ، والثقافة وأزمة الهوية العربية. للدكتور ربيع أيضا قصة بعنوان "رحلة مع القلق" ورواية شعرية بعنوان "قطار الزمن" ومجموعة شعرية بعنوان "خريف الذكريات"، وأخرى بعنوان "إطلالة على البحر". كما له وروايتان "هروب في عين الشمس" و "مملكة جهلواد". ولديه ثلاثة كتب أخرى في طريقها للنشر.  
من بين كتبه بالانجليزية:

The Politics of Foreign Aid; Israel and South Africa, A Vision for the Transformation of the Middle East; The New World Order; Conflict Resolution and the Middle East Peace Process Conflict Resolution and Ethnicity; The US-PLO Dialogue; and The Making of History  


الدكتور ربيع عضو في العديد من المنتديات العلمية والمؤسسات الأكاديمية، من بينها مؤسسة Alexander von Humboldt  ألألمانية، ومنتدى الفكر العربي، والهيئة الاستشارية لكتاب في جريدة، والمجلس العالمي للأفكار الجديدة World Council for New Ideas. كما أنه أسس ورأس تحرير مجلة العلوم الاجتماعية التي تصدر عن جامعة الكويت. صاغ الدكتور ربيع في عام 1988 فكرة الحوار الفلسطيني الأمريكي التي تمخض عنها اعتراف الحكومة الأمريكية بمنظمة التحرير الفلسطينية وبدء عملية السلام في عام 1989، حيث قام بكتابة الوثيقة التي تم التفاوض على أساسها وتنسيق الاتصالات السرية بين الطرفين وصولا إلى الاعتراف الأمريكي بالمنظمة وبدء عملية الحوار. وفيما بين 1989 و 1992 كان عضوا في فريق جامعة هارفارد ومعهد بروكينجز وعضو مجلس إدارة في جمعية البحث عن أرضية مشتركة، وهذه منظمات ومشاريع حاولت خدمة قضيتي السلام والتنمية الاقتصادية في المنطقة العربية. في عام 1985 توقع د. ربيع انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه في محاضرة ألقاها في معهد الدراسات السياسة والاستراتيجية في ألمانيا.
  www.yazour.com:الموقع الإلكتروني

.

تخلف الثقافة وثقافة التخلف


          الثقافة هي مجموعة انجازات المجتمع المتعلقة بنواحي الحياة غير المادية، لذلك تعتبر العادات والتقاليد وطرق التفكير والمواقف والقيم والمعتقدات أبرز العناصر الثقافية التي تتكون منها كل ثقافة من الثقافات "الوطنية". إن تعايش العديد من الأفراد معا فيما يسمى بالمجتمع لآلاف السنين كان سببا في قيام أعضاء المجتمع الواحد بتطوير ثقافة وطنية خاصة بهم تعبر عن شخصيتهم وظروف معيشتهم. وهذا جعل بالإمكان تشابه ثقافات بعض الشعوب، واختلاف ثقافات شعوب أخرى عن بعضها البعض. ويعود التشابه والاختلاف في كلتا الحالتين إلى مسيرة الثقافة عبر القرون من ناحية، وموقع كل ثقافة من حركة التاريخ وتطور الحضارات من ناحية ثانية. لذا يلاحظ المعني بحال وتاريخ الثقافات أن الثقافة كائن حي يتطور باستمرار، تتغير عناصره مع تطور وتواتر الحضارات، مما يجعلها تبتعد عن جذورها كلما انتقل المجتمع من عصر حضاري معين لعصر حضاري آخر.

          إن كل من يعتقد أن الثقافة الوطنية شيء ثابت لا يتغير يرتكب خطأ تاريخيا جسيما، وإن كل من يرى أن العادات والتقاليد والقيم أشياء مقدسة وأنه يجب الحفاظ عليها وصيانتها والدفاع عنها في وجه تحديات العصر يرتكب حماقة كبيرة بحق نفسه، وبحق ثقافته وشعبه ومستقبل أمته على السواء. لقد كان المجتمع القبلي على سبيل المثال، أول من اتخذ موقف الدفاع عن العادات والتقاليد والأعراف القبلية في وجه المد الزراعي وثقافته المختلفة نوعيا، والأكثر تطورا وإنسانية، إلا أن المجتمع القبلي فشل في النهاية في حماية ما أراد حمايته من عناصر ثقافية، حيث اضطرت غالبيته إلى التحول إلى ممارسة مهنة الزراعة واستمراء حياة الاستقرار. كذلك قام المجتمع الزراعي في أوروبا بعد أن استقر وشيد القرى والمدن بالتفاني في الحفاظ على ثقافته وطريقة حياته في وجه المد الصناعي وثقافته المختلفة. إلا انه فشل كسالفه واضطر إلى التحول إلى مجتمع صناعي والتنازل عن عادات وتقاليد مجتمع تجاوزه الزمن وطوته حركة التاريخ.  

          إن المثقف العربي الذي يطالب بالحفاظ على الثقافة العربية يجهل تماما ما يطالب به. إنه لا يقول صراحة ماذا يريد، وليس بإمكانه أن يحدد لنا العناصر الثقافية التي يرى وجوب الحفاظ عليها وحمايتها. إنه يقف موقف الرفض من العديد من العادات والقيم الوافدة، والتي لا تتوافق مع ما تربي عليه من عادات وتقاليد قديمة، ويقوم في الغالب بممارسة سرا ما يحاول رفضه علنا. فهل يطالب ذلك المثقف مثلا بالحفاظ على عادات وأعراف المجتمع القبلي، بما في ذلك تقاليد النهب والسلب وسبي النساء والأخذ بالثأر؟ أم بالحفاظ على عادات وتقاليد وقيم المجتمع الزراعي، بما في ذلك احتقار العمل اليدوي واستغلال المرأة وعدم الاهتمام بالتعليم؟ أم يطالب بالدفاع عن ثقافة السيجارة، أو الأرجيلة، أو الاستهتار في سياقة السيارات، أو تجارة التعليم وامتهان المعلم؟ 
  في معرض تعليقي على مطلب بعض المثقفين بالحفاظ على الثقافة، شرحت في إحدى المؤتمرات تجربة خاصة كنت قد عشتها قبل انعقاد المؤتمر بيومين فقط. وكانت التجربة التي مررت بها قد وقعت يومي الخميس والجمعة السابقين.  حضرت يوم الخميس حفلة زفاف كبرى، وأخرى صغرى يوم الجمعة... تمت الحفلة الأولى في أرقى فنادق المدينة، وتجاوزت تكاليفها مليون دولار، وكانت مختلطة، وشهدت عرضا غير رسمي للأزياء والمجوهرات والزهور وحشد من الفنانين العرب الكبار. أما الحفلة الثانية فقد تمت في اصغر قاعات الأعراس وأكثرها تواضعا في المدينة، وبلغت تكاليفها حوالي 2000 دولار فقط، ولم يشارك بها أي فنان كبير أو صغير، وكان هناك فصل بين الرجال والنساء. وهنا تساءلت عن مدى التشابه والاختلاف بين الثقافتين، وسألت المدافعين عما يسمى بالثقافة العربية عن الثقافة التي يريدون الحفاظ عليها،  أهي ثقافة يوم الخميس، أم ثقافة يوم الجمعة، أم واحد من عشرات الأطياف الثقافية المتنوعة التي تقع بين الثقافتين؟

    إن موروثنا الثقافي الذي يحاول مثقفونا التقليديون الحفاظ عليه والدفاع عنه في وجه موجة العولمة هو حصيل تراكمية لتبعات تجارب حياتية، فردية ومجتمعية عبر عشرات الآلاف من السنين. كما أنه تأثر بما لا عدد له ولا حصر لتبعاته من الأحداث التاريخية والتطورات التكنولوجية والتلاقح الحضاري مع ثقافات الغير من الشعوب. وهذا يجعل الثقافة العربية، شأنها في ذلك شأن ثقافات الشعوب الأخرى، ثقافة مختلطة تفتقد النقاء والأصالة.

   إن من يخاف على الثقافة العربية من العولمة وما تروج له من قيم ومسلكيات وأنماط  استهلاكية وافدة لا يدرك أن  الخوف متبادل بين الشرق والغرب، وأن القيم والمسلكيات والتقاليد الوافدة لا تهب رياحها من الغرب إلى الشرق فقط، بل تهب أيضا من الشرق إلى الغرب. وعلى سبيل المثال، أصبحت المطاعم الصينية والايطالية في أمريكا أكثر شعبية وشيوعا من المطاعم الأمريكية التقليدية، وأصبح طبق الحمص العربي أكثر الأطباق شعبية لدى طلاب الجامعات الأمريكية. وكما صدر لنا الغرب عادة شرب الكوكا كولا، صدرنا له عادة تدخين الأرجيلة التي ينتشر استخدامها بشكل واسع ومتنامي في الكثير من المدن الأوروبية والأمريكية.    

 إن الثقافة العربية التي يعتز بها الكثيرون هي هجين من ثقافات مختلفة، قبلية وزراعية وصناعية، عربية وإسلامية ومسيحية ويهودية ووثنية، آسيوية وافريقية وأوروبية وأمريكية. لكن، بينما يغلب على الثقافة العربية الطابع الزراعي الديني، يغلب على الثقافات الغربية الطابع الصناعي العلماني. وهذا يجعل ثقافتنا تميل بطبيعتها إلى الكسل والتواكل والابتعاد عن القيم المحبذة للإنتاج واحترام الوقت، وتتصف بضعف القدرة على التفكير العلمي والمثابرة في العمل... إنها ثقافة افتقدت، وقبل وصول العولمة بقرون، زمام البادرة، وأصبحت ثقافة متخلفة عن عصرها ولا تعكس صفات البيئة التي أفرزتها. وهذا يعني ببساطة أن توقف ثقافتنا عن التطور جعلها تتخلف، وتغدو عاجزة عن التعايش مع العصر، وغير مؤهلة للتفاعل الواعي مع انجازاته والاستفادة منها، كما يجعل تمسك المثقفين التقليديين بها هو تمسك بثقافة التخلف.


د. محمد عبد العزيز ربيع             professorrabie@yahoo.com