Friday, August 30, 2013

ذكريات تأبى النسيان: مقتطفات من الجزء الأول "الشتات"

لمحة عن حياة العائلة
قضى عمي جُمعة معظم حياته وشبابه في مدينة يافا، ما أعطاه فرصاً كثيرة لتكوين صداقات مع شبابها، كان من بينهم صديق يهوى السيارات والدراجات، اسمه لطفي النابلسي... كان لطفي على ما بدا ينتمي إلى عائلة ثرية. وفي يوم من الأيام جاء لطفي لزيارتنا، ترك سيارته أمام الباب الرئيسي، ودخل مع عمي وصديقين آخرين داخل البيارة (البستان) ومعهم زجاجات اعتقد أنها كانت من النبيذ. ومن أجل التخلص مني، قام أحدهم بنفخ دخان سيجارته في وجهي، ما جعلني أشعر وكأن بؤبؤ عيني يحترق في نار. نهضت مسرعاً، شتمتهم جميعاً من دون تردد، وسرت بهدوء نحو البيت. حين وصلت هناك، لاحظت أن السيارة كانت واقفة بهدوء... أغراني منظرها، رأيت فيها لعبة أتسلى بها، ولذا حاولت أن أقلد عمي وأقوم بتشغيلها، إلا أنني كلما ضغطت على زر التشغيل وسمعت صوت المحرك ورأيت السيارة تتحرك قليلاً كنت أخاف وأتوقف، ثم أعود ثانية وأكرر ما فعلت. وحين عاد الأصدقاء بعد أن قضوا وقتاً جميلاً وانتهت الحفلة، كانت مفاجأتهم كبيرة، إذ اكتشفوا أن السيارة معطلة... كنت قد لعبت بها وقتاً كافياً لإفراغ البطارية من شحنتها، وهنا هربت من وجههم في داخل البيارة ولدي شعور بالتشفي.
هناك تجربتان سلبيتان حدثتا أمامي وكان لهما أثر ايجابي  على حياتي: الأولى نفخ دخان السيجارة في عيني، حيث جعلني ذلك الحدث أكره السيجارة والتدخينً، وقادني إلى اتخاذ موقف معادٍ للتدخين بشكل عام، ترسخ بعد أن تعرف العلم على المضار الصحية الكثيرة والخطيرة للسيجارة. لذلك لم أدخن سيجارة في حياتي. أما الشيء السيئ الثاني الذي كان له أثر ايجابي على حياتي فقد حدث في أريحا بعد سنوات حين رأيت رجلاً وقد فقد وعيه من كثرة ما شرب من الخمر في أحد الأعياد، وبدأ يترنح بشكل مضحك ما دفع العديد من الصبية إلى التجمع حوله والاستهزاء به. وحيث أنه لم يكن باستطاعة ذلك الرجل السير على قدميه من كثرة السكر، فإن رجال الأمن وضعوه في عربة من العربات الحديدية التي كانت تُستخدم لجمع القمامة من الشوارع ونقلها إلى المحرقة. إلا أن الرجل الذي كان في حينه في عداد المعتوهين، ظن نفسه رئيس دولة يركب سيارة فخمة مكشوفة، وأن الجماهير التي تجمعت من حوله تستهزئ به جاءت كي تحييه وتهتف بحياته، ما جعله يلوح بيده محيياً الجماهير على جانبي الطريق. وهذا أقنعني بالابتعاد عن الخمر والحذر من مغبة أن أقع في نفس المأزق، ولذا لم انجرف مع أصدقائي من الشباب فيما بعد خلف السيجارة أو شرب الكحول، أو حتى الإدمان على شيء له علاقة بالأكل أو الشرب أو اللهو... نعم لقد أدمنت على هوايات عديدة منها حب الناس والقراءة والكتابة والطبيعة والسفر والتدريس الجامعي.
علمني والدي كيف أضع أصابعي في فمي وأصفر نغمات متعددة، استخدمناها وسيلة اتصال فيما بيننا. الصفرة الواحدة كانت تعني "أنا هنا"، اما الصفرتان فكانت تعني "تعال"، وتكرارها ثلاثاً كان يعني "لا تأتي، سآتي أنا". لذا كنت بعد أن أصحو من النوم في الصباح، وبعد أن أعود من المدرسة في الظهيرة، أطلق صفارتي عالية فيرد علي والدي، وبالتالي أعرف مكان وجوده في البيارة (بستان البرتقال). أذهب إليه مسرعاً فيخبرني عن الأشياء التي كنت أحبها وأتابعها بشغف: بيوت العصافير التي بدأت في تكوينها، عدد البيض في البيوت التي تمت عملية بنائها حديثاً، ما نوع تلك العصافير؟ وما حجم العصافير التي كانت بيضاً وفقست قبل أيام؟ وهل نمت بما يكفي وهجرت بيوتها وسافرت مع غيرها من العصافير عبر المسافات؟ كانت العصافير وسيرة حياتها وأنواعها وألوانها وأنغامها ومواسم قدومها وهجرتها أكثر الأشياء التي جذبتني في طفولتي، حتى توقفت تلك الطفولة عن النمو في الشهر الأول من عام 1948، وحُرِمتْ من تذوق طعم الفرح والتمتع بسماع دعاء العصافير تستقبل الصباح، وتودع النهار في المساء. كان الهُدهُد هو أكثر الطيور التي سحرتني بريشها وألوانها الخلابة وكبريائها، ولذا عز علي فراقها كثيراً. وعلى الرغم من عشقي للعصافير والطيور، إلا أن علاقتي معها لم تكن علاقة حب وعشق فقط، بل كانت أيضاً علاقة تنافس. كنا نتنافس على ثمار الجوافة والتين بشكل خاص، ولم يزعجني أبداً أن آكل حبة تين أو جوافة سبقتني العصافير إلى تذوق طعمها، لأن لدى العصافير حساً غريزياً يدلها على أفضل حبات التين والجوافة الناضجة.
توفي جدي لأبي وكذلك جدي لأمي قبل ميلادي بأعوام، لذلك فقد أبي والده في سن الشباب، ما جعله يحن لذلك ويعامل كل رجل أكبر منه سناً كوالده. وبسبب حاجة الوالد لمساعدة مستمرة للعناية بالبيارة، وفي ضوء انشغال عمي بنشاطات شبابية لا تمت للزراعة بصلة، كالتمثيل والرياضة والسيارات، وجد والدي نفسه بحاجة لمن يساعده بشكل دائم. ولقد وجد ضالته في رجل مخلص طيب القلب كان يكبره بسنوات من قرية وادي حنين التي تقع إلى الجنوب من قرية بيت دجن. كان والدي ينادي ذلك الرجل الذي عاش معنا وفي بيتنا "يابا" أي يا والدي، ويعامله بلطف واحترام، حتى حين يخطئ. وفي يوم من الأيام، أخذني ذلك الرجل معه إلى قريته على ظهر حمار لأحضر حفلة زفاف أحد أبنائه الثمانية. إلا أنني هربت في صباح اليوم التالي من القرية وسرت مُسرعاً في اتجاه يازور، حيث اتبعت نفس الطريق التي سلكناها من يازور عبر بيت دجن إلى وادي حنين، لكن أحد أولاده ركب حصانه وتبعني. وفيما كنت جالساً على دوار بيت دجن أراقب المارة وآخذ قسطاً من الراحة، فجأني ذلك الشاب، وحملني على حصانه، وعدنا إلى وادي حنين. كانت هناك نكتة تقول: "إذا توشوش أهل يازور، أهل بيت دجن بسمعوهم"، أي أن سكان بيت دجن يسمعون همس سكان يازور، وذلك لشدة قرب يازور من بيت دجن. إلا أن المسافات القريبة، وعلاقات النسب والجوار والصداقة بين أبناء البلدتين لم تكن كافية لتوحيد لهجاتهم أو تقاليدهم. كان أهل بيت دجن أكثر تحرراً من النواحي الاجتماعية من أهل يازور، وكانت لهجتهم أكثر ليونة، يمطون الكلمات كأنهم يمضغونها. أما أهل يازور فكانوا يتصفون بالمحافظة ولكن بالتسامح والكرم، ما جعل يازور تستضيف الكثير من الغرباء الذين جاؤوا للعمل والتجارة في مدينة يافا. ومن بين الغرباء الذين سكنوا يازور جماعة كانت تُدعى الُغْربية" جاءوا إلى فلسطين من تونس والمغرب ومصر، وسكنوا على أطراف يازور، امتهنوا بشكل أساسي حرفة الحدادة، خاصة صناعة أدوات الزراعة والسكاكين والمناشير وما شابه ذلك.
لم يكن ذلك الشيخ الطيب الذي كنت أناديه "سيدي" أي جدي، هو الشخص الوحيد الذي انضم إلى عائلتنا الصغيرة في يازور وأصبح واحداً منا. كان هناك أيضاً شخص آخر اسمه فارس، جاء صبياً من قرية "بيت دَراس" التي تقع في جنوب فلسطين على بعد 30 كيلومتراً تقريباً من مدينة غزة، وعاش معنا وعمل في بيارتنا حتى أصبح واحداً من أبناء العائلة، وهذا جعله يكتسب اسم "فارس أبو ربيع"، لكن اسمه الحقيقي هو فارس محمود خليل شاهين. وبسبب كونه واحداً من أبناء العائلة، ولم يكن يُعامل كعامل زراعي لديها، فإن والدي زوجه ابنة خالته التي كانت من أهالي قلقيلية. وحين فتحت عيني على الدنيا، وجدت امرأة سمراء ممشوقة القوام حولي، أحببتها كثيراً وأحبتني أكثر، كنت أناديها وحتى وفاتها في عمان بعد أكثر من 60 عاماً، عمتي "حليمة". أما أهل البلدة فكانوا يسمونها "حليمة البدوية".
جاءت الصبية حليمة إلى يازور بعد رحلة شاقة لا ندري كم استغرقت من الوقت، قطعت خلالها نهر الأردن وعدة مدن وعشرات القرى الفلسطينية وحوالي 80 كيلومتراً مشياً على الأقدام. كانت حليمة التي تنتمي لعشيرة العدوان التي تسكن في منطقة على الجانب الشرقي لنهر الأردن، قد هربت من وطنها وبيت عائلتها وعشيرتها بعد أن تعرضت لظروف غير عادية. قطعت حليمة النهر وعبرت إلى فلسطين، ووصلت يازور بعد رحلة طويلة لا نعرف عن تفاصيلها شيئاً. لكنها حين وصلت يازور، وكانت في حينها حاملاً، كان من حسن حظها أنها وجدت جدتي "حِسِنْ" هناك لاستقبالها. أخذتها جدتي إلى البيت وتبنتها، وضمتها إلى عائلتها الصغيرة، وعاملتها كابنة لها وذلك حتى وفاة الحاجة في عام 1976 في السعودية. كانت جدتي على ما يبدو تشعر بحاجة نفسية لابنة بعد أن حرمها القدر من أن تكون أماً لبنت من لحمها ودمها. لقد أنجبت جدتي أكثر من عشرة أولاد وبنات، لم يعش منهم سوى إثنين، والدي عبد العزيز وعمي جُمعة. وإذا كان "فارس أبو ربيع" قد حصل على كنيته نتيجة لقيام والدي بضمه لعائلتنا، فإن "حليمة البدوية" حصلت على اسم عائلتنا في السجلات الرسمية بعد أن تبنتها ستي وآخاها والدي وعمي. تزوجت العمة حليمة أكثر من مرة، لكنها لم تنجب ولداً أو بنتاً، حتى الجنين الذي حملته معها من الأردن، والذي كان على ما يبدو سبب لجوئها إلى فلسطين، مات قبل أن يرى النور. لقد تم الزواج الأول بمساعدة والدي من رجل أعمال كان يعمل في التجارة، قدم إلى يافا من قرية دوره القريبة من مدينة الخليل، وكان يسكن في "سكنة أبو كبير" في يافا. وفي بيت عمتي حليمة وزوجها أبو العبد قضيت ليالي كثيرة وأياماً جميلة، صاحبت عمتي فيها إلى سوق يافا وبحرها وشواطئها الساحرة. 

Tuesday, August 27, 2013

مقتطفات من كتاب التدمير الذاتي العربي: استراتيجية الدولة الفاشلة وكيفية تحقيقها

الدولة الفاشلة
تبلور مفهوم الدولة الفاشلة في أوائل التسعينيات من القرن العشرين بعد انهيار الدولة في الصومال وفي غيرها من دول إفريقية وآسيوية. ويمكن تعريف الدولة الفاشلة بأنها الدولة التي تفقد سيطرتها على أجزاء من البلاد التي تحكمها، وانتقال السيطرة على تلك الأجزاء إلى عصابات مسلحة ذات توجهات طائفية أو إثنية أو عميلة تتصارع فيما بينها على حساب مصلحة الوطن والمواطن. وهذا يعني أن الدولة الفاشلة ليست الدولة التي تفشل في تحقيق نهضة اقتصادية أو علمية أو ثقافية في بلادها، بل الدولة التي تسير نحو الانهيار والتمزق. وبسبب ما يوفره انهيار السلطة المركزية من فرص للمجرمين وأمراء الطوائف والأعداء، فإن المجموعات المسلحة تكون مضطرة إلى التحالف مع القوى الأجنبية الطامعة، حتى وإن كانت قوى شيطانية من أجل تحقيق أهدافها والحيلولة دون استعادة الدولة لهيبتها وسلطاتها التقليدية. 
كانت إسرائيل سباقة في استيعاب أهمية تجزئة الدول المعادية وإفشالها، إذ قامت في عام 1953 بتشكيل لجنة مختصة لبناء علاقات مع الأقليات غير العربية وغير المسلمة ومع الدول المحيطة بالعالم العربي. وفي معرض التفكير في كيفية إفشال الدول العربية قال دافيد بن جوريون أول رئيس وزارة في إسرائيل: إن "عظمة إسرائيل لا تكمن في قنبلتها النووية ولا في ترسانتها العسكرية... عظمة إسرائيل تكمن في انهيار ثلاث دول عربية: مصر والعراق وسورية". وفي ضوء ما يحدث اليوم في سورية من دمار، دعى عاموس يادلين رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية سابقاً ورئيس مركز دراسات الأمن في جامعة تل أبيب إلى تقوية علاقات إسرائيل بالحركات "الإرهابية المرتبطة بالقاعدة". وتبدو النخب الحاكمة في أمريكا وإسرائيل وبريطانيا وفرنسا اليوم في طريقها إلى توظيف نموذج الدولة الفاشلة لتحقيق أهداف إستراتيجية في بعض مناطق العالم، من بينها تخفيف أعباء حماية الموارد الطبيعية الحيوية، وإنهاك الدول التي تشكل خطراً على مصالح الغرب عامة ومصالح أمريكا وإسرائيل خاصة.
يؤدي غياب السلطة المركزية إلى تقويض قدرة الدولة على التحكم في اقتصادها ومواردها الطبيعية، ما يفتح المجال أمام العصابات  الخارجة على القانون كي تسيطر على الأوطان والشعوب المنكوبة وتستغلها. ولما كانت تلك العصابات متحاربة بطبيعة تكويناتها الطائفية والمذهبية والعشائرية، فإنها لن تتوقف عن القتال والاقتتال. وحيث إن السلاح ضرورة من ضرورات الحياة بالنسبة لتلك العصابات، فإن استمرارها يحتم عليها الاعتماد على قوى الاستعمار القديم والجديد للحصول على ما تحتاجه من أسلحة وبيع ما تسرقه من معادن ومصادر طاقة، وتبييض ما تستولي عليه من أموال. وهذا من شأنه تكريس تخلف كل شعب يعيش في ظل دولة فاشلة، وتدمير بنيانه الاجتماعي، وتشويه ثقافته، وفتح كل الطرق أمام تجار الأسلحة والبشر لإرهابه واستغلال ثرواته الطبيعية والهيمنة عليه. أما فيما يتعلق بالدول الكبرى، فإن اعتماد العصابات المسلحة عليها يضمن لها تحقيق مصالحها الاقتصادية والأمنية من دون تكلفة حقيقية. ومع توارد الأيام واستمرار الحروب الأهلية تتحول التركة الحضارية للشعوب التي تعيش في ظلال دول فاشلة إلى نفايات تسقط مع الزمن من تراث الإنسانية، فيما تغدو في نظر الغير من الأمم شعوباً همجية لا تنتمي إلى العالم المتحضر.
يقول الدكتور ماكس مانوورنج Max Manwaring الذي عمل ضابطاً في الجيش الأمريكي ومسئولاً كبيراً في جهاز الاستخبارات العسكرية ويشغل اليوم منصب أستاذ الإستراتيجية العسكرية في كلية الحرب التابعة للجيش الأمريكي، إن من المصلحة إفشال بعض الدول ذات الأهمية الاستراتيجية بالنسبة لأمريكا مع إحكام الهيمنة عليها. وتتم عملية إفشال الدولة بتدريب مجموعات أجنبية وتمويلها وتمكينها من التسلل إلى داخل الدولة المُستهدفة، أي خلق طابور خامس يعمل بهدوء على تدمير الدولة المعنية من الداخل. وتشمل عملية إفشال الدولة العمل ببطء ولكن بثبات على إنهاكها وتآكل إرادتها والتشكيك في قدراتها كي يسحب الشعب الشرعية منها، وإرغامها في النهاية على تنفيذ إرادة أعدائها... "إن الهدف من هذه الحرب ليس تحطيم المؤسسة العسكرية في الدولة المُستهدفه، ولا إسقاط الدولة، ولا القضاء على الشعب أو موارده، وإنما اختطاف الدولة وإرغامها على الخضوع لإرادة المُعتدي". وتشمل عملية الاختطاف التحكم الفكري والسياسي في نظام الدولة والسيطرة عليه سيطرة كاملة، بحيث يكون "مضطراً لإصدار قراراته ليس من أجل التعبير عن إرادة الشعب، وإنما من أجل التعبير عن إرادة الدولة التي قامت باحتلال أراضيه وإخضاعه لسيطرتها".http://www.youtube.com/watch?v=_mGToW_kJPc   
وتبدأ عملية إفشال الدول، كما يقول مانوورنج، بزعزعة الاستقرار في البلاد، فى الغالب بوسائل سلمية، كأن يقوم عملاء من المواطنين بتنفيذ مخطط يستهدف الإخلال بالأمن وشيوع الفوضى. وليس من الضرورة أن يكون منفذو هذا المخطط من الرجال، بل من الممكن أن تشترك في تنفيذها النساء والأطفال. وتشمل أولى مراحل إفشال الدولة تقويض مصداقية النظام الحاكم باستخدام الإعلام الموجه إلى الشعب، والانتقال بعد ذلك إلى خلق مناطق داخل حدود الدولة لا سيادة للدولة عليها عن طريق دعم مجموعات مسلحة تستخدم العنف للسيطرة على المناطق المستهدفة. وهذا من شأنه تحويل الدولة إلى دولة فاشلة وانهيار إرادتها، وفتح المجال أمام أعدائها للتدخل في شؤونها والتحكم في مصيرها... "إن الحرب، سواء كانت قاتلة أو غير قاتلة، هي عملية اغتصاب... اغتصاب قدرة العدو وإرادته على الفعل، وأن الدولة الفاشلة هي الدولة التي يتم تدميرها من الداخل بشكل بطيء وتدريجي، بحيث تؤدي عملية التدمير إلى سقوط الدولة جثة هامدة. وهذا يمكن إنجازه من خلال تشكيل طابور خامس وظيفته الأساسية خلق أسباب الفتنة والتناحر بين مختلف فئات المجتمع، ودفعها نحو التدمير الذاتي". 
وتأكيدا لهذا النهج في التعامل مع العرب نورد فيما يلي ما قاله عاموس يادلين رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق في نوفمبر 2010، وذلك كما أوردته جريدة كل العرب التي تصدر في فلسطين المحتلة منذ عام  1948. قال يادلين: "لقد أنجزنا خلال الأربع سنوات ونصف الماضية كل المهام التي أوكلت إلينا، واستكملنا العديد من المهام التي بدأ في تنفيذها من سبقنا، وكان أهمها الوصول إلى "الساحر"، (أي القائد في حزب الله عماد مغنية). لقد تمكّن هذا الرجل - اللغز من عمل الكثير الكثير ضد دولتنا، وألحق بنا الهزيمة تلو الأخرى، ووصل إلى حد اختراق كياننا بالعملاء، لكننا في النهاية استطعنا الوصول إليه في معقله الدافئ في دمشق التي يصعب جداً العمل فيها. إن نجاحنا في ربط نشاطات الشبكات العاملة لصالحنا في لبنان وفلسطين وإيران والعراق أوصلنا إلى إحكام الطوق حول جحره الدمشقي، وهذا يعتبر نصراً تاريخياً مميزاً لجهازنا على مدار السنين الطويلة".  http://www.alarab.net/Article/338088
من ناحية ثانية، يبدو أن أمريكا قررت سحب معظم قواتها العسكرية تدريجياً من منطقة الشرق الأوسط، ما يجعلها بحاجة إلى استراتيجية عسكرية سياسية جديدة تضمن لها الهيمنة على ينابيع البترول والغاز التي تملكها تلك المنطقة من دون تكلفة حقيقية. لذلك تتجه نحو رسم خطة مرحلية لإفشال الدول العربية وانهيارها من الداخل وتأمين السيطرة عليها، وذلك بالتعاون أساساً مع بريطانيا أم الدول الاستعمارية وإسرائيل آخر معاقل العنصرية. وفي اعتقادنا تمثل سياسة إفشال الدول وتدمير قدراتها التنموية، وتجزئتها إلى دويلات متناحرة، وتجويع وترويع شعوبها أبشع جريمة تُرتكب بحق الإنسانية، علماً بأن الأشخاص الذين يخططون لارتكابها يزعمون بأنهم ينتمون إلى أكثر دول العالم تحضراُ. وبسبب حجم هذه الجريمة، نلاحظ أن مانوورنج يشير إلى سياسة إفشال الدولة والحروب غير التقليدية بوصفها كلمات "مُحرًّمة كُنّا نهمس بها همساً"، لكن آن الأوان للبوح فيها. 
كتب المثقف الفرنسي ثيري ميسان يوم 16/7/2013 تحت عنوان "العالم من دون قطر" يقول إن وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر بطريقة قانونية جاء ليؤذن بحقبة استعمارية جديدة بناء على اتفاق سري بين الولايات المتحدة الأمريكية والإخوان المسلمين وإسرائيل. ويتهم ميسان الإخوان بالتعاون مع بريطانيا والسي أي إيه منذ عقود، إذ يقول كان من المفروض أن الإخوان أسسوا حركتهم في البداية من أجل محاربة البريطانيين، لكن البريطانيين قاموا باختراقهم ودعمهم وتوجيههم لمحاربة القوى القومية التي كانت العدو الحقيقي للاستعمار البريطاني. ومما يدلل على تعاون الإخوان مع بريطانيا، كما يقول ميسان، أن مركز التنسيق الدولي للحركة ما يزال في لندن حتى اليوم. ويختتم ميسان قائلاً "إن عزل مرسي لا يمثل فشلاً للإخوان فقط، بل وفشلاً لؤلائك الذين يجلسون في لندن وواشنطن أيضا،ً وقد اعتقدوا أن بإمكانهم إعادة تشكيل شمال إفريقية والشرق الأوسط تحت قيادة إسلامية، وفي حالة الفشل، فإنهم يفضلون إشاعة الفوضى على فقدان القدرة على السيطرة والتحكم." http://www.voltairenet.org/article179434.html

ذكريات تأبى النسيان: مقطتفات من الجزء الأول: الشتات: عودة إلى يازور


عودة إلى "يازور" Yazour

تقع قرية يازور التي تحاذي مدينة يافا ولا تبعد عن بحرها الساحر سوى خمسة كيلومترات تقريباً على الطريق الدولي الذي يربط يافا بالقدس مروراً بمدينة الرملة، أما عدد سكان يازور فقد بلغ 4675 نسمة في عام 1948. وهناك، في يازور، كانت محطتي الأولى، حيث ولدت وتشكلت براعم طفولتي التي أُقتلعتْ من جذورها بعنف قبل أن تُزهر... أُقتلعت حين قامت العصابات الإرهابية اليهودية بمصادرتها بوحشية. لقد جاءت تلك العصابات إلى بيتنا في أقسى ليالي الشتاء برداً، وأكثرها سواداً، وأغزرها مطراً لتسرق طفولتي مني قبل قدوم الربيع وحلول موسم الإزهار. وحين صادرت طفولتي، حكمت تلك العصابات الإجرامية على ذكرياتي بالنفي بعيداً عن الأنظار في إحدى زوايا الوجدان، حيث تركتها تغرق في بحر من الآلام والأحزان والضياع. لكن العقل الباطن كان قد احتفظ بصورة حية لتلك الذكريات، وحين أيقظته الصدمة من سباته بعد مرور عشرين عاماً في غابات جاتلنبرج، أطلعني على ما كان لديه من كنوز، وسمح لي بإعادة اكتشافها ومعايشتها والتمعن في معانيها وعبرها. لقد تسببت عملية الغزو الصهيوني، ومن حيث لا أدري، في طمس تجربة يازور، وقامت بكبت حبي لها ولبساتين البرتقال وزهر البرتقال وشجيرات التين والجوافة التي كنت أتسلقها وأتسابق مع العصافير على قطف ثمارها الناضجة... تلك العصافير التي عشقتها عشقاً جماً وغدا عشقي لها وشوقي لرؤيتها ثانية حقاً يأبى النسيان، وتجربة لا تُمحى من الذاكرة أو الوجدان. ومع سرقة طفولتي ومصادرة ذكرياتي جاء الهروب من البيت في عتمة الليل وتحت ظلال دخان قنابل قاتلة وهطول أمطار غزيرة وعواصف مرعبة حرمتنا من رؤية الطريق. كان الهروب من البيت قد جاء ضمن حملة التطهير العرقي التي شنتها العصابات اليهودية في أعقاب صدور قرار التقسيم في عام 1947، ما تسبب في فُقداننا كل شيء مادي جمعه والدي في حياته، وكل حجر بناه بيديه وعرق جبينه، وكل شتلة خضار وشجرة مثمرة ووردة رعاها بقلبه ومنحها جزءاً من روحه، وكل ثوب طرزته والدي على ضوء القمر. 

كانت يازور عبارة عن حديقة كثيفة من أشجار البرتقال والليمون وغيرها من حمضيات وفواكه، وكان المارة في شوارعها وبين بساتينها يشمون عبير الليمون ويغمرهم أريجه، ويرافقهم حيث ساروا... غرباً على الطريق إلى يافا، أو شرقاً على الطريق إلى قرية بيت دجن ومنها إلى قرية وادي حنين جنوباً، أو شرقاً إلى قرية صرفند وصولاً إلى مدينتي الرملة واللد، أو شمالاً إلى قرية سلمه ومنها إلى قرى ساكيه والخيرية وكفر عانة والعباسية . وفي بدايات الربيع من كل عام، كان الحنون الأحمر يغمر روابي يازور وتغزوها الفراشات العاشقة للزهر ورحيقه من كل أرجاء الدنيا. كانت الفراشات الملونة تسافر عمراً بأكمله عبر المحيطات والجبال والسهول والوديان لتستمتع بزهو الحنون ولون العشق يُلون وجناته، وترشف رحيقه الذي يُطيل عمر كل فراشة تطأ أرض يازور وترتوي من مياهها العذبة. 

يازور هي إحدى مئات القرى الفلسطينية التي قام الصهاينة بتدميرها وإزالة آثار سكانها العرب الذين عاشوا فيها عصوراً بلا حصر. وفي يازور قام الصهاينة بهدم معظم البيوت وحولوا البلدة القديمة إلى قرية صغيرة لا يزيد عدد سكانها على بضعة مئات، تشبه إلى حد بعيد ضيعة لبنانية معلقة على سفح جبل. وكما أن بيوت وبساتين يازور لم تنج من عبث المستعمر اليهودي، فإن الآثار التاريخية لم تنج هي الآخرى، فقد حولوا بقايا القلعة الرومانية التي كانت تسمى "البوبرية" وما حولها من مبان قديمة إلى منتزه جميل وهادئ، وحولوا الجامع ذا القباب السبعة الذي كان يسمى "مقام الإمام علي" إلى معبد يهودي. وحين سمحت لي الظروف بزيارة يازور عام 1996، أي بعد 48 سنة من الغياب والنفي والاغتراب، رأيت امرأة عجوز تجلس على كرسي خشبي بالقرب من القلعة وبيدها كتاب، وتحت أقدامها تحفة فنية رائعة من النقوش... قطعة من بقايا أرضية بيت جميل تعود ملكيته لأحد أقاربنا، الشيخ أحمد حامد أبو ناموس. أما يازور الحديثة وما كان فيها من بساتين كثيرة وأشجار مثمرة وأزهار متنوعة، وعصافير تهوى التغريد، وآبار ارتوازية لا تتوقف عن ضخ المياه، وبرك سباحة وبيوت ريفية جميلة فقد تحولت بفعل المستعمرين إلى بقايا مكان يجسد جمال الطبيعة... تحولت إلى مدينة صناعية ملحقة بمستوطنة حولون التي تعتبر أكبر التجمعات الصناعية في الدولة العبرية المُغتَصِبة. 

تشير الخرائط القديمة والآثار القائمة إلى أن يازور قديمة قدم التاريخ، فقد جاء ذكرها في حوليات الملك الآشوري سنحريب في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد، وأن اسمها في حينه كان أزورو. وفي القرية عدة أماكن أثرية ذات أهمية تاريخية، حيث أُكتشف فيها قبران يعودان إلى الألفية الرابعة قبل الميلاد. ولقد تم فتح يازور على يد القائد العربي عمرو بن العاص أثناء فترة الفتوحات الإسلامية. ويُعتبر جامع القرية الذي تعلوه سبعة قباب من أهم الآثار التاريخية في يازور، وهناك اتفاق حول تاريخ هذا الجامع الذي أقيم في عصر المماليك في القرن السابع عشر على أنقاض كنيسة قديمة أقامها الصليبيون، ولقد قام اليهود بتحويل ذلك المكان إلى معبد يهودي بعد توقيع اتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993. كان "مقام الإمام علي" لا يُستعمل مكاناً للصلاة والعبادة فقط، بل وأيضاً مركزاً لتجمع الأهالي وإقامة الاحتفالات والأعراس، إضافة إلى كونه مدرسة لتدريس الأطفال وتحفيظ القرآن. أما بواقي القلعة الرومانية فيعود تاريخها إلى القرون الوسطى، إذ أقامها الصليبيون للملك ريتشارد قلب الأسد الذي قضى وقتاً طويلاً في منطقة يازور/ يافا، حيث كانت القرية مسرحاً لمعارك دامية دارت رحاها بين المسلمين والصليبيين في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، ومسرحاً لأحداث سياسية مهمة كان من أهمها المفاوضات التي دارت بين ريتشارد قلب الأسد قائد قوات الصليبيين في حينه، وصلاح الدين الأيوبي قائد جيوش المسلمين. 

ينقسم سكان يازور إلى أربع عائلات كبيرة، أو "حمايل"، ويبدو أن القرويين في فلسطين اختاروا تعبير "الحامولة" بدلا من "العشيرة" الذي تستخدمه القبائل العربية في الأردن والعراق وبلاد الشام وغيرها. أما تلك الحمايل فهي: البطانجه، والعميريه، والمصاروه، والحوامده التي انتمي إليها، إلا أن والدتي تنتمي إلى حامولة العميريه، وزوج خالتي ينتمي إلى حامولة المصاروه، وزوجة الجد إسماعيل تنتمي إلى حامولة البطانجه. ويختلف أهل يازور والمؤرخون والمهتمون بالأنساب حول أصول تلك الحمايل. فهناك من يدعي بأن أصول جميع أهل البلدة تعود إلى الجزيرة العربية واليمن، وهناك آخرون يدعون بأن الشعب الفلسطيني ينتمي لأصول تعود إلى الكنعانيين واليونانيين والفرس والرومان الذين سكنوا أو حكموا تلك البلاد قديماً. كما يظن آخرون أن معظم الشعب الفلسطيني يعود بجذوره إلى القبائل العربية التي جاءت مع الفتوحات الإسلامية، وإلى الصليبيين الذين استولوا على تلك البلاد في العصور الوسطى، وإلى الأكراد الذين جاؤوا مع صلاح الدين الأيوبي لمحاربة المستعمرين إبان الحروب الصليبية، وإلى المصريين والأتراك والبريطانيين وغيرهم ممن قدموا لفلسطين أو حكموها حديثاً. كما يرى آخرون أن حمولة المصاروه بالذات تعود في أصولها للعسكر الذين جاؤوا ضمن حملة إبراهيم باشا لضم بلاد الشام، أي فلسطين وسورية ولبنان والأردن، إلى مصر إبان الحكم العثماني. ولكن، ومهما قيل في هذا الموضوع، فإن من المؤكد أن بعض الفلسطينيين يعودون في أصولهم أيضاً إلى القبائل الإسرائيلية القديمة الذين سكنت مناطق من فلسطين في عهد التوراة والإنجيل، وإلى الأشوريين والكنعانيين الذين سبقوهم وكانوا أول من استوطن أرض فلسطين وعمرها. 

ومهما كان من أمر هذا التعدد في الرأي، فإن الشيء الثابت والوحيد هو أن جذور غالبية أهل يازور تعود إلى أقدم الحقب التاريخية، إذ تشير بعض الخرائط القديمة إلى أن يازور تبلورت كمستوطنة زراعية مع بدايات عصر الزراعة قبل حوالي عشرة آلاف سنة، وتطورت مع الأيام لتغدو محطة على الطريق إلى البحر. ولقد تعرضت يازور كغيرها من قرى ومدن وبلاد للغزو من قبل قبائل وجيوش أجنبية قامت بسبي نسائها وأطفالها وقتل الكثير من رجالها، وهذا جعل فلسطين تخضع خلال حقب التاريخ المتتابعة لحكم أكثر من إمبراطورية قديمة ودولة استعمارية غازية، ما فرض على سكانها التواصل مع الآخر والتفاعل مع شعوب وثقافات غريبة عن ثقافتهم وتاريخهم. كما وأن التفاعل مع الآخر من خلال عمليات الغزو والتجارة والتبشير الديني قاد إلى زاوج الكثير من الرجال والنساء من غرباء، ما أدى إلى اختلاط الدماء والأجناس، حتى أصبح الكل جزءاً لا يتجزأ من مجتمع واحد، لا يمكن فصل أعضائه عن بعضهم البعض. لذا لا يمكن، ولا يجوز التهرب من الاعتراف بأن الشعب الفلسطيني، كغيره من شعوب الأرض، هو خليط من شعوب وأجناس عديدة، عربية وغير عربية، من بينها الكنعانيين والأشوريين والإسرائيليين والفراعنة واليونان والفرس والرومان والعرب والمغول والأكراد والأتراك والسودانيين، والمغاربة الأمازيع، والأفارقة السود، والمستعمرين الفرنسيين والبريطانيين وغيرهم. 

اتجه أهل يازور في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين إلى زراعة الحمضيات وتربية الأبقار الهولندية على نطاق واسع، وذلك لارتفاع العوائد المادية من الحمضيات ومنتجات الألبان عموماً. وهذا دفعهم إلى التوسع في حفر الآبار الارتوازية التي بلغ عددها 140 بئرا في عام 1945، حيث كان لكل بئر مضخة تعمل على الديزل وتُشغل في العادة مرة كل أسبوع. كانت تلك الآبار المصدر الرئيسي لمياه الشرب وري المزروعات في القرية، وكانت ماكينات الضخ تضخ المياه في برك كبيرة نسبياً، جدرانها من الأسمنت المسلح، استخدمها الأهالي لري المزروعات والشرب والسباحة على السواء. وهذا شجع الكثيرين من أهل البلدة على ترك بيوتهم القديمة في وسط القرية والرحيل منها إلى بساتينهم التي كانوا يسمونها "بيارات"، وإقامة مساكن ريفية حديثة فيها، ينافسون العصافير في التمتع بها والعيش في ظلالها وعلى خيراتها. نتيجة لذلك أصبحت البلدة تنقسم إلى قسمين: يازور القديمة التي تعتز بآثارها وتاريخها العريق ونكهتها العتيقة ودورها التقليدي كمركز تجاري وخدماتي وترفيهي، ويازور الحديثة التي تزهو بأشجارها وأزهارها وعبيرها وطيورها وبيوتها ومسابحها ومياهها العذبة. ولقد أدى التوسع في زراعة الحمضيات وتربية الأبقار إلى زيادة الدخل وتنويع مصادره بالنسبة لمعظم العائلات، وتسبب في رفع معدلات استهلاك السكان عامة من الحليب والألبان والأجبان والزبدة. وحيث أن أهالي يازور كانوا من ملاك الأراضي الزراعية، أو من أصحاب بساتين البرتقال والحمضيات، فإنهم كانوا جميعاً من الميسورين، وإن كان ذلك بدرجات متفاوته، ولم يعرفوا خلال تاريخهم الطويل في قريتهم ووطنهم الجوع أو الفقر


، إذ لم يكن في يازور عائلة واحدة لا تملك بيتاً أو أرضاً زراعية، كما لم يكن من بين أهلها إقطاعي واحد


مقتصفات من كتاب "التدمير الذاتي العربي: مراجعة تاريخية سريعة

مراجعة تاريخية سريعة



كان التحرر من الاستعمار الغربي في أعقاب الحرب العالمية الثانية بداية دخول العالم العربي بقياداته الفكرية والثقافية والسياسية خضم عملية التطور العالمي بكافة أبعادها الحضارية. وعلى مدى عقدين من الزمن عاشت الشعوب العربية فترة انتعاش نفسية وثقافية شهدت ميلاد فكرة الحرية الفردية، وتراجع العشائرية، والتطلع بعين الأمل نحو تحقيق وحدة عربية وعدالة اجتماعية، ومناجاة فلسفات القومية والماركسية والديمقراطية. لكن تدخل الاستعمار إلى جانب نظم الكبت السياسي والتيارات الثقافية المناوئة لفكرة الوحدة العربية، وتزايد خطر الكيان الصهيوني على الوجود العربي أدى إلى توقف المد القومي التحرري. إذ أن التقاء القوى المعادية لتطلعات الشعوب العربية داخل الوطن العربي وخارجه حول أهداف مشتركة دفع تلك القوى إلى التضامن وملاحقة النخب العربية التي نادت بالوحدة والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتقدم العلمي والاقتصادي واضطهادها. وقبل أن ينقضي عقد الستينيات من القرن العشرين، تذوق العرب مرارة الهزيمة ثانية على يد إسرائيل، ما أدى إلى سقوط الشعارات التقدمية ودخول العرب مرحلة من الاحباط والانحطاط والاستكانة. ولقد نتج عن ذلك عودة القيم التقليدية التي عفا عليها الزمن إلى الهيمنة على الشارع العربي، واستبدال أقنعة التخلف القديمة المهترئة بأقنعة تبعية مزركشة صُنعت في بريطانيا وأمريكا وفرنسا وغيرها من دول معادية. 


تبلورت حركة القومية العربية بزخمها الحقيقي بين أوائل الخمسينيات ومنتصف الستينيات من القرن العشرين. وفيما كان التيار القومي يعمل بنشاط ويقدم التضحيات، كان لديه قناعة بحتمية قيام وحدة سياسية تضم كافة الأقطار العربية، إلا أن هزيمة العرب أمام إسرائيل عام 1967 قضت على تلك التخيلات والآمال الجميلة. لقد أدت تلك الحرب، بين أشياء أخرى، إلى هزيمة الفكرة القومية، وفكرة العدالة الاجتماعية، والعمل الحزبي المنظم، والتوجه نحو القبول بالهزيمة والاستكانة بدلاً من التوجه نحو مواجهة التحديات المصيرية. لذلك لم يعد هناك وجود لأحزاب سياسية قومية، ولا إرادة لتحقيق وحدة سياسية، ولا حتى وحدة موقف بين الدول العربية، كما لم يعد هناك وجود لنظم تقدمية، إذ تحولت كل نظم الحكم العربية إلى نظم إقليمية فاشلة ومستبدة. في ضوء تلك التطورات، تحولت أغلبية القيادات القومية إلى قيادات "وطنية" أو دينية، ارتبطت بنظم حكم قاصرة وتيارات دينية كانت وما تزال عبئاً على نفسها وشعوبها وعلى الوطن العربي بأكمله. 

تبع هزيمة 1967 حصول ردة ثقافة واسعة في الوطن العربي أسهمت في بلورة حركة إسلامية متطرفة جاءت على شكل تيار ثقافي محافظ استولى على زمام المبادرة وأعلن استعداده لقيادة الجماهير العربية نحو "النصر". ولقد قام ذلك التيار بتكفير أفكار الاشتراكية والديمقراطية والعلمانية، وطرح الإسلام بديلاً للفكرة القومية التي كانت تشكل تهديداً حقيقياً لنفوذ القوى الاستعمارية ومصالحها في البلاد العربية. ولما كانت أهداف الحركة الإسلامية تتلاقى مع أهداف دول الغرب الاستعمارية فيما يتعلق بفكرتي الوحدة العربية والاشتراكية والديمقراطية، فإن تلك الدول قامت بتكثيف دعمها للتيار الإسلامي وتشجيعه على التحول إلى حركات سياسية في مواجهة بقايا الحركات القومية والتيارات اللبرالية. وفي أعقاب وقوع الثورة الإيرانية عام 1979، وقيام الاتحاد السوفييتي باحتلال أفغانستان في نفس العام، حصل توافق بين موقف أمريكا وغيرها من دول الغرب الاستعمارية على ضرورة هزيمة الاتحاد السوفييتي، ما دفع تلك القوى إلى التعاون مع الإسلام السياسي بشكل مباشر كما حدث في أفغانستان، وبشكل غير مباشر كما حدث في فلسطين ومصر وتونس، ويحدث اليوم في سورية. وتشير الكثير من الدراسات والوثائق إلى أن أجهزة الاستخبارات الغربية قامت منذ خمسينيات القرن العشرين بتأسيس علاقات مع قادة الحركات الإسلامية، خاصة الإخوان المسلمين، مكنتها من تحويل بعضهم من دون وعي إلى عملاء يعملون في خدمتها وخدمة قوى الرأسمالية العالمية. وبسبب حساسية هذا الكلام، سوف نخصص لها جزءاً خاصاً ضمن الفصل الذي يناقش "الحركات الإسلامية والعصر"، نتحدث فيه بشيء من التفصيل عن علاقة الإخوان المسلمين بالغرب كما جاءت في كتابات محللين ومؤرخين أمريكيين وأوروبيين. 

كان من نتائج مشاركة العرب في حرب أفغانستان شيوع فكرة الجهاد، واتجاه قطاع كبير من الشعوب العربية نحو التزمت والانغلاق الفكري والتفرقة ضد غيرهم من الناس على أساس الدين. وفي ضوء سيادة الجهل المرتبط بتقاليد وخرافات قديمة، والسماح لكل من هب ودب بالإفتاء في أمور الدين والحياة، اكتسب التطرف الديني شرعية اجتماعية ثقافية، ما جعل التحرر والانفتاح يبدو كأنه خروج على الدين والتقاليد والتراث. ومن أجل تكريس هذه الحالة الشاذة، قامت بعض الدول النفطية والعديد من أثرياء النفط بتوظيف جزء من أموالهم لتشجيع التطرف الديني عن قناعة أحياناً، وعن جهل أحياناً أخرى. نتيجة لذلك شاع الفكر التكفيري، وأصبحت مواقف نفي الآخر وإقصائه واجب ديني وأخلاقي، كما أصبحت إثارة النعرات الطائفية والمذهبية سياسة غربية إسرائيلية لتجزئة الشعوب العربية وضمان الهيمنة عليها. وفي ظل هذه الظروف، فقدت التعددية الثقافية شرعيتها، وتم تزييف الوعي العربي بوجه عام، ما تسبب في تخلف العقل العربي وجمود الحراك الاجتماعي والثقافي الذي بدا واعداً في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. 

من ناحية أخرى، جاءت المشاركة العربية في حرب أفغانستان خدمة للمصالح الأمريكية لتجعل العمالة لأمريكا خدمة للإسلام والمسلمين وجهاداً في سبيل الله والدين، كما جعلت قتل من تختلف معه في الرأي، حتى وإن كان مُسلماً، قضية جهادية. نتيجة لذلك أصبح الجهل والتعصب الديني والتخ الفكري والفساد والانحراف الأخلاقي صفات تميز العرب عن بقية شعوب العالم في عصر المعرفة والعلم والتعدد الثقافي والعولمة. وفي الواقع، إذا قمنا بتحليل إنجازات العرب الحضارية منذ الثورة النفطية حتى اليوم، آخذين في الاعتبار الفرص التي أضاعها العرب والأموال التي بددوها والموارد البشرية التي قاموا بكبتها وتهجيرها إلى خارج الوطن العربي، فإن العرب ربما كانوا أكثر الأمم فشلاً في تاريخ البشرية المعاصر

Saturday, August 24, 2013

ذكريات تأبى النسيان: مقتطفات من الجزء الأول، الشتات

نَبْض الحياة
عشت حياتي منذ الصغر كرحلة شوق بلا نهاية، حملتني إلى أماكن بعيدة ودول عديدة وشعوب مختلفة الثقافات واللغات والقضايا والتركات الحضارية والتطلعات المستقبلية... أمم وشعوب تعيش في ظل أوضاع سياسية وثقافية واجتماعية متباينة، وظروف اقتصادية ومستويات حياتية متفاوتة.. أقمت طالباً وأستاذاً جامعياً وباحثاً في بلاد عديدة وأماكن جميلة، وشاركت في صنع أحداث مثيرة أدخلتني في تجارب فرح ومرح وحزن وسعادة ومعاناة وعذاب وألم لا يطاق أحياناً. كانت هناك تجارب عشتها تحت ضغوط قاسية، وأخرى عشتها في ظل وعود زاهية زائفة، وتجارب مع مذاق متعة لا مثيل لها، ونشوة ألم على طريق شفاء يستأنس طعم الألم. كانت حياتي وما تزال حكاية ولادة وموت وتجدد وأمل وخيبة أمل متواصلة... أمل في حياة مستقبلية حيث يولد الأمل وينمو الحب ويترعرع على ضفاف الخيال، ويُبحر الشوق في بحر هائج بلا ربان، ويتجذر العشق في ثنايا الروح بلا وعي، ويتجدد الفكر ويعيد صياغة نفسه بلا انقطاع، ويختزن الضمير ما يحلو له من تلك المشاعر والتجارب بشغف طفل يتعلم المشي لأول مرة. وكي أعيش حياتي كما يجب أن تكون عليه الحياة، واستمتع برحلتها إلى أقصى حدود المتعة الممكنة، كان علي أن أتمرد على الكثير من الأعراف العائلية، التقاليد المجتمعية السائدة، والأفكار العقائدية الجامدة، ونظم الحكم السياسية المستبدة، والنعرات العنصرية، والقيم الاجتماعية المكبلة للفكر والعقل والحرية.
عشت بداية حياتي ككل طفل يعيش حياته دون أن يفكر في مستقبله، لكن العقل، وكما اكتشفت لاحقاً، يختزن كل شيء ويُعيد استحضاره حين تتوفر ظروف معينة، وهذا ما حدث بالنسبة لي، إذ أعاد العقل الباطن استحضار تجربة سنوات طويلة تحت ضغوط هزيمة عام 1967، وما فرضته أحداث تلك الهزيمة وتبعاتها من مراجعة. إذ فيما كنت أتجول وحيداً في جبال جاتلنبيرج وغاباتها الكثيفة في ولاية تينيسي الأمريكية، أتأمل عظمة الطبيعة واستمتع بروعة حُسنها وشُموخها ورونق أزهارها، وأصغي لهمس الشجر وشدو العصافير، وأتابع غروب الشمس بشوق، شعرت بأن شيئاً ما يتغير في داخلي... شعرت بأن هناك شيئاً غريباً يُولد بهدوء في أعماق ذاتي. كان قراري في أعقاب الهزيمة بعدم التحدث مع أي عربي لمدة أسبوعين على الأقل على ما يبدو هو الصدمة الساكتة التي أيقظت الوعي من سباته العميق، وأعادتني إلى حالة من الوعي لم أختبرها من قبل... صدمة فجرت ينابيع المعرفة الكامنة في أعماقي ودفعتها إلى التدفق بغزارة والصعود إلى الرأس، تاركة خلفها ذاكرة مُشبعة بذكريات تأبى النسيان.
جاء قراري بعدم التحدث مع أي عربي لمدة أسبوعين تحت إلحاح الرغبة في التعرف على الأسباب الحقيقية للهزيمة بعيداً عن محاولات التبرير التي يُجيدها العرب عامة، ومن أجل البحث عن وسيلة للخروج من الأزمة بعيداً عن غوغائية العقائدية ولوم الآخر. لقد حملتني تلك الصدمة إلى الماضي البعيد لأتذكر ما فات من حكاية عمري وأحداث طفولتي، وأشاهد فصول تلك الحكاية تعود في صورة خيالات وأحلام يقظة تعيد تشكيل ما وقع في الماضي من أحداث كشيء حي. شاهدت ذكريات الطفولة والصبا والشباب تعود باكية مبتسمة عاتبة، تمر أمامي شريطاً سينمائياً تراه عيني كأطياف غروب على وجه شمس تستعد للهروب في حضن بحر هادئ، وزهر برتقال وليمون يعطر هواء "يازور" ويغمر البيت من كل جانب، ورائحة زعتر بري يكسو سفوح الجبال المجاورة لمدينة رام الله، وكروم عنب وتين قرية جفنه وخربة أبو قش وعلى مقربة منها وقد حان قطافها، وخيام لاجئين يعانون البؤس والفقر والظلم تغطي أرضاً صحراوية قاحلة على مشارف مدينة أريحا، وعواصف رملية تداعب خيام البؤس والحرمان بقسوة وشراسة تدمي العيون وتحرق الشجيرات الصغيرة المتناثرة هنا وهناك، وأنوار صاخبة تُغرق شوارع القاهرة وتسرق البصر من المارة وتحجب الرؤية عن الأنظار، وأحلام لا تحدها أحلام يعيشها الناس في ألمانيا وأمريكا... تذكرت أشياء أخرى غريبة، صغيرة وكبيرة، قال لي والدي فيما بعد أن بعضها وقع قبل أن أكمل الثالثة من العمر.
كانت تلك التجربة حدثا مهما في حياتي جعلني أدرك أن العقل الباطن لا يختلف كثيراً عن جهاز كمبيوتر يختزن في داخله كل ما يسجل صاحبه على شاشته الصغيرة من ذكريات وأحداث، لكنه يُخزنها على شكل صور وخيالات لا تخضع لنظام محدد، إذ يبدو أن العقل يضع ملفاته في أمكنة مختلفة لا تحمل أرقاماً ولا عناوين ولا تواريخ، ما يجعل عملية البحث عنها وإعادة تصفحها صعبة، وأحياناً مُضنية تحتاج لوقت طويل. في بعض الأحيان، نحاول أن نتذكر اسم شخص أو عنوان كتاب أو مكان دون فائدة، لكن، وبينما نغط في نومنا، نستيقظ فجأة على همس داخلي يُذكرنا بما كنا نبحث عنه... ذلك هو دور العقل الباطن، الاحتفاظ بكل معلومة هامة ومساعدتنا على استعادتها عند الحاجة. إن هيمنة العقل الإنساني على نشاطاتنا اليومية وقراراتنا يجعل من الصعب علينا إيقاظ العقل الباطن من سباته، إلا حين يغفو العقل الظاهر، أو حين نمنحه إجازة كي يرتاح مؤقتاً ويتنازل راضياً عن دوره في حياتنا اليومية. إن عقل الإنسان يعمل طوال ساعات النهار دون توقف، ما يقوده إلى إغراق صاحبه في دوامة من القضايا والمعارك الآنية المُتعبة ذات الصلة بأمور الحياة اليومية. وحيث أننا لا نستطيع أن نعيش وندير أمور حياتنا ونستمتع بها من دون التعامل مع المشاغل والفرص التي تُواجهنا، ومن دون خوض ما قد يترتب على ذلك من معارك، فإن العقل الظاهر يهيمن عادة على حياتنا ويعزل العقل الباطن عن مسرح الأحداث، يتركه يراقب ويُقيّم ويُدون عن بعد.
لذلك كان على الإنسان الذي يود أن يرى ما في داخله، وأن يستعيد ذكريات يظن أنها دُفنت تحت ركام الأيام والأحزان والأحداث المتلاحقة، عليه أن يعطي عقله الظاهر إجازة قصيرة، يستغلها في التواصل الواعي مع عقله الباطن... ضميره الذي لا ينام، ولا ينسى شيئا مهما، ولا يُفوِّت فرصة من دون تسجيل ما هو مؤثر من أحداث وأحاديث ومشاعر. ومنذ ذلك اليوم، وعدتُ نفسي أن أحكي حكاية عمري لها بين الفينة والأخرى، وأن أتذكر وأسجل واستعرض ما استطعت من أحداثها ومحطاتها العديدة المهمة، وهي محطات تكاثرت بسرعة فائقة لم أكن أتوقعها، ومن النادر جداً، إن لم يكن من شبه المستحيل، أن يعيشها إنسان واحد في غضون عمر واحد مهما طال ذلك العمر. وكي لا أنسى، واظبت على سرد تفاصيل الحكاية لنفسي أثناء السفر في الطائرة والتجوال في الغابات، وأثناء خلودي للراحة في فراشي بعد يوم عمل مضن، وإضافة ما استجد من أحداث مهمة إلى مخزون الذاكرة، والخلوة مع ذاتي بين الحين والآخر كي تبقى الذكريات حية في الوجدان، تستنشق هواء الحرية وتجدد ذاتها بذاتها.

والآن، بعد رحلة عمر طويلة أخذت تقترب من خط النهاية، رأيت أن من واجبي أن أسطر رحلة حياتي وتجربة عمري على الورق لتكون في متناول الناس جميعا... في متناول يد كل من يحب القراءة، وكل من يهوى المعرفة، وكل من يريد أن يعايش بعض أحداث الماضي في فلسطين والأردن ومصر والكويت ولبنان وألمانيا وأمريكا والمغرب وغيرها من بلاد العالم. تجربة تصف مشاعر من يتشوق للقيام بمغامرة جديدة في ربوع غابة كثيفة تسكنها الغزلان وتعطرها أزهار برية... مشاعر من يعشق الحب وحب الطبيعة... قمر لمن يحلم بقضاء ليلة مثيرة على صدر عشيقة فاتنة، ومنارة تضيء الطريق لمن يبحث عن حياة جديدة مُنتجة وفكر خلاق مُختلف... من يبحث عن أمل يعيد له الثقة بالنفس وبالحياة وبقدرة الإنسان على صنع مستقبله بنفسه. حكايتي طويلة بطول سنوات التشرد من الوطن، ومرهقة بقدر متاعب البحث عن وطن في غياب الوطن، وصعبة بقدر حجم خيبة الأمل في العثور على وطن بعد عشرات السنين، وعميقة بعمق محنة الشتات ومعاناة الشتات وقسوة عيون الشتات الباهتة، وحزينة بحزن أمل واعد يُذبح في محراب الظلم على مرأى من العالم أجمع في رابعة النهار، ومؤلمة بقدر معاناة حياة لم تتذوق طعم الاستقرار أو الطمأنينة يوما، وساحرة بسحر غروب فوق بحر تعلوه سحابة صيف ضائعة... نعم ضائعة... فكل حكاية عمر هي قصة ضياع مثير... رحلة في المجهول لا نعرف بدايتها ولا نعرف نهايتها، ولا نعرف كيف سيراها الغير ويفهمها، ولا كيف ستحكم عليها الأزمنة والأجيال القادمة.
 

Friday, August 23, 2013

مقتطفات من كتاب "التدمير الذاتي العربي: مدخل إلى استراتيجية الدولة الفاشلة

مدخل إلى استراتيجية الدولة الفاشلة
دخل العرب مع الخروج من الأندلس في أواخر القرن الخامس عشر واستيلاء العثمانيين بعد سنوات على السلطة في الدولة العربية الإسلامية مرحلة انحطاط تسببت في خروجهم من التاريخ الحضاري للإنسانية. ومع أن اكتشاف النفط في عدة بلاد عربية في أوائل القرن العشرين أشاع قدراً كبيراً من التفاؤل بقرب حدوث نهضة عربية شاملة، إلا أن ظهور النفط في أكثر بقاع العالم العربي تخلفاً تسببت في تخلف العرب نسبيا من النواحي الثقافية والفكرية والعلمية والاقتصادية والتكنولوجية عن أغلبية شعوب العالم. ولقد اتصفت تلك المرحلة، خاصة بعد هزيمة العرب أمام إسرائيل في عام 1967، بالتخبط السياسي والتشتت الفكري، وتراجع ثقافة الإنتاج لحساب ثقافة الاستهلاك، وسيطرة نظم حكم فردية مستبدةً، وشيوع فكر ديني محافظ لا يعترف بحق الآخر في الاختلاف. وفي ضوء تلك التطورات، اتجه عامة الناس ببطء ولكن بثبات نحو التزمّت الديني والإيمان بالخرافات ونظرية المؤامرة التي تغرس الإحباط في النفوس، ما جعل المد الثقافي والتفكير العلمي ينحسر، ويخيم اليأس بدل الأمل، وتنطفئ شعلة النهضة الثقافية والاجتماعية التي أشعلها المثقفون العرب من جيل الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين.
تتصف المجتمعات التي يسودها الجهل كالمجتمعات العربية بالانغلاق الفكري والتعصب الإيديولوجي والميل إلى العزلة عن العالم وذلك لأن الجهلة من الناس، حتى وإن حمل بعضهم شهادات جامعية، ليس بإمكانهم التفكير بوعي واستيعاب ما يدور حولهم من تطورات حياتية وتحولات كونية. وهذا يتسبب عادة في دفع عامة الناس إلى البحث عمن يقودهم ويحرمهم من الحرية ويصادر وإرادتهم ويحولهم إلى تابعين. أما من يدعي الثقافة من أولئك الناس، فإن عدم قدرتهم على فهم تعقيدات الحياة واستيعاب معطياتها يجعلهم يرتمون في أحضان أقرب بيت إيديولوجي دافئ يُصادفهم في الطريق. وفي غياب الحرية والوعي التاريخي والدولة التي تعي أهمية العلم والتعليم والفكر والثقافة والإبداع الفني، لم يجد القاصر العربي سوى الدين يلجأ إليه بيتاً إيديولوجياً يرتمي في أحضانه، يدافع عنه بقوة، ويروج مقولاته بإيمان، غالباً من دون أن يقرأ حرفاً منها أو يفهم شيئاً من جوهرها. 
من ناحية أخرى، اتجهت نظم الحكم العربية عامة نحو تبني سياسات تقوم على كبت المواطنين ووأد روح المبادرة الفردية والقيادة الجماعية، وحرمان الناس من فرص التحرر من التقاليد البالية والهياكل الاجتماعية التي عفا عليها الزمن منذ زمن، ومحاربة الفكر المستنير، وتأسيس نظم حكم فردية فاسدة ومستبدة. ولقد قامت تلك النظم باحتكار السلطة والسيطرة على المؤسسات الاقتصادية والثقافية والإعلامية وتوظيفها للإثراء على حساب الأوطان والشعوب ومستقبل الأمة، كما قامت بتشييد أجهزة القمع والتحكم الرسمية (بوليس، وجيش، وبيروقراطية، ومخابرات، وإعلام) وتوجيهها لإذلال المواطنين والهيمنة عليهم، وهدر أموالهم والتجسس على المثقفين والمفكرين ودعاة الحرية منهم، وتزييف وعي الجماهير بوجه عام وإقناعهم بأن ليس بالإمكان أفضل مما كان. نتيجة لهذه السياسات، تحول الجهل والتخلف المقترن بالفقر والحاجة إلى ثقافة شعبية أساسها القناعة حالت وما تزال تحول دون حدوث تقدم نوعي في أي مجال من مجالات الحياة العربية.
في ضوء تخلف العرب اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وعلمياً وتكنولوجياً، وضعفهم عسكرياً وتشتتهم سياسياً وفكرياً، وبسبب ما لديهم من ثروات نفطية كبيرة أصبحوا بمثابة فرصة استثمارية نادرة شجعت القوى الاستعمارية القديمة والجديدة على استغلالها. لذلك اتجهت تلك القوى إلى العمل على تكريس تخلف العرب والهيمنة عليهم، والتحكم في مواردهم، وحرمانهم من فرص التقدم والتحرر والوحدة. ولما كانت تكاليف الحروب تتزايد يوماً بعد يوم، فيما كانت احتمالات النصر تتراجع سنة بعد أخرى، فإن القوى الاستعمارية قررت على ما يبدو تبني استراتيجية عسكرية سياسية جديدة تتصف بضئالة تكاليفها المادية والبشرية وارتفاع احتمالات نجاحها. وتقوم الاستراتيجية المعنية على خطط وبرامج تشمل تكتيكات عسكرية واجتماعية وثقافية ونفسية وإعلامية ترمي إلى تحويل كل دولة مُستهدفة إلى "دولة فاشلة" لا تستطيع بسط سيادتها على كامل أراضيها وشعبها، ما يجعلها عاجزة عن تحقيق أي إنجاز يُذكر، وبحاجة دائمة لحماية أجنبية.
تحاول هذه الدراسة تحليل هذه الإستراتيجية الشريرة وطرق تطبيقها وكيفية عملها، وشرح أبعادها وتبعاتها على حياة الشعوب التي تقع فريسة لها، وتقييم مدى ما حققته من نتائج على مختلف الساحات العربية. لكن قبل الدخول في صلب الموضوع، سوف نحاول بسرعة تحليل أسباب الضعف العربي، وحال الأمة العربية، ومدى صلاحية الديمقراطية الغربية للعرب. كما سنقوم بالحديث بشكل مقتضب عن الإسلام ودوره في الحياة العربية، وتحديد طبيعة المرحلة التي يمر بها وتبعاتها المتوقعة على مستقبل الإسلام والأمة العربية ونظرة العالم إلى الإسلام والمسلمين بوجه عام. ونقدم في نهاية الدراسة مشروعاً لنظام ديمقراطي يتجاوب مع حاجات الأمة العربية، آخذين في الاعتبار التطورات الدولية المتتابعة وتيارات التحول المستقبلية المتوقعة.



Thursday, August 22, 2013

الانتماء والنماء

الانتماء جزء من الحياة الاجتماعية لكل فرد، إذ لا تكتمل حياة إنسان ولا يشعر فرد براحة نفسية إلا إذا كان عضواً في مجموعة صغيرة نوعاً ما، يشترك مع بقية أفرادها في أشياء تهمه وتعنيه وترتبط بماضيه أو حاضره أو مستقبله. وفي ضوء صغر الفرد في مقابل المجتمع، فإن كل فرد ينتمي لأكثر من مجموعة من الناس تشكل فيما بينها حلقات متنوعة، بعضها هرمي وبعضها الآخر أفقي، تتقاطع مع بعضها البعض أحياناً، وتتكامل مع بعضها البعض أحياناً أخرى، وتتنافس فيما بينها في كل الحالات والأحيان. وبسبب ذلك، يخضع سلوك الفرد وموقفه من الذات والغير عادة لتيارات ثقافية وفكرية ومصلحية متعددة، يغلب عليها التناقض، ما يستدعي قيام الفرد بالعمل على تطوير حلقات الانتماء التي ينتمي إليها والإسهام في تكاملها، والحرص على تنمية ملكاته العقلية ومواهبه الخلاقة، وتعديل مواقفه للتجاوب مع ظروف الواقع وتحدياته المتزايدة، والعمل الدؤوب على استكمال متطلبات النماء وبناء شخصية ذاتية تتصف بقدر كبير من الاستقلالية الفكرية والحرية الاجتماعية والمثالية.


حين يأتي إنسان إلى الحياة، يحمل معه إرثاً تارخياً وثقافياً واجتماعياً لا يستطيع أن يتخلى عنه أو يُنكره. إذ حين يتخلى إنسان عن إرث تاريخي، يتخلى في واقع الأمر عن جزء أساسي من شخصيته وعلاقاته مع الغير ومحيطه الاجتماعي، أي عن الإطار الاوسع الذي ينتمي إليه وينشط من خلاله. وحيث أن كل إنسان بحاجة للتحرر مما يعيق حركته أو يكبلها من ناحية، وإلى إطار انتماء لاستكمال وجوده الاجتماعي من ناحية ثانية، فإن كل إنسان يجد نفسه يعمل في اتجاهين مختلفين في آن واحد. الأول تحرير الذات وبناء شخصية تتمتع بقدر كبير أو صغير من الاستقلالية، والثاني تطوير إطار الانتماء الأهم ليكون أكثر تجاوباً مع احتياجاته وطموحاته المستقبلة، وذلك دون الخروج على الاطار المجتمعي الأكبر. مع ذلك من الطبيعي أن يقوم إنسان باستبدال إطار الانتماء الأهم بإطار آخر يكون أقدر على التجاوب مع احتايجاته في مرحلة ما من مراحل حياته الاجتماعية أو المهنية. إن التخلي كلياً عن إرث ثقافي واجتماعي يقود في كل الحالات والأحيان إلى التخبط والضياع، وأحياناً إلى الاحباط وخيبة الأمل.
في بعض الحالات والأحيان، يقوم المجتمع بعزل شخص أو أقلية وممارسة التفرقة ضدها ما يتسبب في دفع أعضائها إلى الغضب والعنف والثورة على الواقع. وهذا يعني أن الانتماء ضرورة اجتماعية وحقاً مشروعاً، وان التفرقة ضد الغير جريمة اجتماعية وتنكر لإنسانية الآخر، وحرمان إنسان من حقه في الحياة حياة سوية والتكامل مع محيطه الاجتماعي الأكبر.

د. محمد ربيع     www.yazour.com