Sunday, September 8, 2013

مقتطفات من ذكريات تأبى النسيان: بدايات الاستعمار في فلسطين

بدايات الاستعمار
اخبرني الصديق العزيز لودفيج وهبي تماري، أحد أبناء مدينة يافا، وربما أكثرهم عشقاً لها، أن منطقة تل الريش الواقعة في طرف يافا كان اسمها حتى بدايات القرن العشرين تل الروس. ويعود سبب تلك التسمية إلى واقعة قطع رؤوس حوالي 2000 شخص ودفنها في ذلك المكان... أشخاص جمع نابليون معظمهم واحتجزهم كأسرى ورهائن في طريقه من مصر إلى عكا بعد غزو مصر والاستيلاء عليها في أواخر القرن الثامن عشر. وبسبب تفشي مرض الطاعون بين رجاله، فإن نابليون قام بعزل المصابين والرهائن في منطقة نائية على أطراف يافا، حيث تركهم هناك فريسة للجوع والمرض والإهمال، وسار في طريقه إلى عكا بهدف الاستيلاء عليها. وفي أعقاب فشل جيشه في اقتحام تلك المدينة عام 1799، أصدر الإمبراطور الفرنسي أوامره في طريق العودة إلى مصر بقتل المحتجزين في يافا وقطع رؤوسهم وحرق جثثهم، حيث تم تنفيذ الجريمة على رأس هضبة مشرفة على البحر. لذلك اكتسبت تلك الهضبة اسم تل الروس، ومن ثم تحول اسمها إلى تل الريش حين بدأ سكان يافا باستيطانها. ولقد بقيت آثار الجريمة مخفية حتى قيام أهل يافا بالتوسع في اتجاه تلك الهضبة في أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين، وتحويل معظم أراضيها إلى بساتين برتقال وحمضيات... إذ من خلال أعمال التشجير وحفر قنوات الري والآبار الارتوازية، عثر العمال على عشرات الرؤوس المقطوعة في بيارة تماري، وعلى المئات غيرها في بيارات أخرى مجاورة. وتشير المعلومات الشفوية إلى أن الضحايا كانوا خليطاً عجيباً من الناس، الأغلبية كانت من الأتراك، والباقي كانوا من المصريين والسودانيين والأفارقة والفلسطينيين والمرتزقة الأوروبيين الذين حاربوا في صفوف جيش نابليون.
يبدو أن هزيمة نابليون أمام أسوار عكا، ومروره عبر سيناء في طريقه عائداً إلى مصر أقنعته بأن لفلسطين أهمية استراتيجية. وهذا جعله يقترح على يهود أوروبا إقامة دولة لهم في فلسطين تكون حليفة لفرنسا، وتقديم الوعود لهم بمساعدة الإمبراطورية الفرنسية. كان هدف نابليون الأساسي احتواء النفوذ البريطاني في تلك المنطقة عبر إقامة كيان غريب عنها متحالف مع فرنسا. وبذلك يكون نابليون قد استبق قيام الحركة الصهيونية بحوالي 100 عام، وحدد معالم الاطماع الاستعمارية وأهدافها الرئيسية في المنطقة العربية.
في عام 1840، تبنى البريطانيون فكرة نابليون وقاموا بالاتصال بالسلطان العثماني، حيث طلبوا منه السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين. ومع أن السلطان رفض ذلك الطلب، إلا أن الحكومة البريطانية قامت بتشجيع أثرياء اليهود على تمويل عمليات بناء مستوطنات يهودية في فلسطين. ومع افتتاح قناة السويس للملاحة عام 1862، أدركت بريطانيا أهمية ذلك المجرى المائي، وحاجتها الاستراتيجية للسيطرة على القناة من أجل التحكم في طرق التجارة الدولية. نتيجة لذلك، اندفعت بقوة نحو دعم الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتمهيد الطريق لإقامة كيان يهودي عنصري في تلك البلاد يكون متحالفاً معها ومعادياً لسكان المنطقة من العرب. وكما جاء في عديد الوثائق والكتب، كان هدف بريطانيا هو الهيمنة على قناة السويس والحيلولة دون قيام وحدة عربية تجمع عرب إفريقيا مع عرب آسيا في دولة واحدة. ولقد تتوجتْ جهود بريطانيا والحركة الصهيونية بالنجاح بعد استيلاء بريطانيا على فلسطين عام 1917، وهو العام الذي شهد صدور "وعد بلفور" الذي تعهدت بريطانيا بموجبه بمساعدة يهود أوروبا الذين أنشئوا الحركة الصهيونية عام 1897 على إقامة وطن قومي لهم في فلسطين.
وتشير الوثائق التي كُشف النقاب عنها حديثاً إلى عمق الالتزام البريطاني بتحقيق ذلك الهدف، ومدى الدعم السياسي والمادي والعسكري الذي قدمته تلك الدولة الاستعمارية للحركة الصهيونية من أجل تمكينها من إقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين، وإلى سكوت قوات الاحتلال البريطاني على جرائم التطهير العرقي التي ارتكبتها المنظمات الإرهابية اليهودية خلال عامي 1947 و 1948. ومع أنه مضى على إقامة إسرائيل 65 عاماً، وعلى الرغم من تحول قطاع كبير من الرأي العام البريطاني إلى جانب الفلسطينيين، وقيام العديد من المؤرخين والمثقفين بالاعتراف بجريمة بلادهم وكشف حقيقتها وإدانتها، إلا أن كل نخبة حاكمة بريطانية تورث العنصرية والكراهية لكل جيل يأتي بعدها كي لا يتراجع عن دعم إسرائيل، ولا يتوقف عن كراهية العرب والعمل على تقويض محاولات التحرر والتنمية والوحدة في وطنهم.
حين وقعت الحرب العالمية الأولى كان "محمود القنيري"، خال الوالد، ضابطاً برتبة عالية في الجيش التركي. وحين هُزمت تركيا وتفرق جيشها، أطلق القنيري سراح جنوده، وبدأ رحلة العودة من اليمن إلى وطنه فلسطين ليصل يازور بعد أن كان جيش الاحتلال البريطاني قد دخل فلسطين وسيطر عليها. اعتبر الناس نجاح القنيري في الوصول إلى فلسطين بعد أشهر من السفر من اليمن عبر السعودية والأردن على ظهر حصانه وبندقيته على كتفه معجزة. لقد قطع محمود القنيري تلك البلاد بجبالها وسهولها وصحاريها من دون أن تصادفه قوات معادية، ومن دون أن تعترض طريقه عصابة. لكن تلك "المعجزة" كانت تعكس حال العرب في تلك الأيام، التعاطف مع بعضهم البعض، ومد يد العون لكل غريب، وحماية أبنائهم من غدر الأعداء وقطاع الطرق... كانت أخلاقيات التعاطف، ووحدة الدين واللغة، وتشابه العادات والتقاليد عوامل ثقافية مشتركة وحدت العرب وجمعتهم معاً في الماضي، فيما جاءت أخلاقيات السياسة والجشع وعبادة المال والسلطة لتفرقهم في الحاضر.
وفي الواقع، وحتى عام 1939 لم تكن هناك حدود سياسية بين البلاد العربية بالمعنى المتعارف عليه اليوم، لذلك كان العربي يقطع بلاد العرب من موريتانيا إلى عُمان من دون إذن مسبق أو جواز سفر. كما كان المسافر أو الرحالة يجد دوماً من يستقبله بالترحاب ويدعوه إلى الإقامة في بلده ويتخذه صديقاً أو أخاً، ما جعل مئات العائلات المهاجرة تسكن في معظم المدن وحتى القرى العربية البعيدة والقريبة.
كان من حسن تخطيط محمود القنيري أنه مر على يازور قبل أن يواصل طريق العودة إلى قرية الشيخ مونس. وحين وصل يازور استقبله جدي وجدتي ووالدي الذي كان صبياً، بالفرح والترحاب. أخذوا منه الحصان والبندقية وأخفوها بعيداً عن الأنظار وعن عيون الجيش البريطاني الذي كان يتصيد أمثاله من الضباط ويعدمهم على الفور، وأحضروا له لباساً مدنياً بدلاً من زيه العسكري، واستضافوه بضعة أيام قبل مرافقته إلى الشيخ مونس مروراً بأطراف يافا وتل أبيب التي كانت تعج بالجنود البريطانيين. قطع محمود القنيري أراضي السعودية والأردن وفلسطين دون أن يعلم أن فلسطين وقعت في يد البريطانيين الذين جاؤوها أعداء مُحتلين مُستعمرين متواطئين مع الصهاينة. كانت الحكومة البريطانية حينئذ قد أصدرت وعد بلفور، ونذرت نفسها لاستخدام قوتها العسكرية ومكانتها الدولية لإقامة كيان يهودي معاد للعرب على أرض فلسطين يكون بمثابة حاجز جغرافي يحول دون تواصل الشعوب العربية التي تعيش في افريقيا مع الشعوب العربية التي تعيش في آسيا، وأداة عسكرية توظفها لتكريس التجزئة السياسية على الأرض العربية وحرمان العرب من الوحدة والتحرر والنهضة.



No comments:

Post a Comment