Monday, September 2, 2013

ذكريات تأبى النسيان: مقتطفات من الجزء الأول "الشتات" من تراث يازور الشعبي

من تراث يازور الشعبي
شهد مقام الإمام علي العديد من الأحداث الغريبة والهامة التي كان لها أثر في حياة أهالي يازور وتراثهم الاجتماعي، من بينها إجراء مراسم جنازة لأحد سكان القرية دون أن يفارق الحياة. لقد وقع ذلك الحادث، كما قالت لي جدتي حِسٍنْ، في السنوات الأولى من القرن العشرين بعد زواجها من جدي بوقت قصير. كان الرجل الذي شيعوا جنازته مريضاً، ودخل على ما يبدو في غيبوبة دامت يومين، ما جعل نبضه يضعف كثيراً. ظن أهله أنه فارق الحياة، وبالتالي قاموا بتغسيله وتكفينه وأخذه إلى مقام الإمام علي والصلاة عليه، لكن حين انتهت تلك المراسم كان الوقت قد أصبح متأخراً لدفنه، ما حتم الانتظار حتى صباح اليوم التالي لحمله إلى مثواه الأخير. ترك المصلون الرجل، أو جثته كما ظنوا داخل مبنى الجامع وعادوا إلى بيوتهم. لكن حين بدأ نور الصباح يتسلل إلى داخل الجامع، صحا الرجل من غيبوبته، نظر حوله فوجد نفسه ملفوفاً بكفن ومستلقياً داخل نعش. ذُهل الرجل، لكنه سرعان ما أدرك ما حدث له، وعرف أنه هناك في انتظار شروق الشمس ليدفن حياً. سارع الرجل إلى الخروج من النعش، فتح باب الجامع، وسار في اتجاه بيته مسرعاً. لكن مروره في شوارع القرية صادف ذهاب المزارعين إلى مزارعهم، وبعض النساء إلى آبار الماء لملء جرارهن. فوجئ الناس بمنظر شيء غريب يمر في أزقة القرية ملفوفاً في كفن أبيض... ظنوه شبحاً غازياً يريد إيذاء الناس والأطفال، ما جعلهم يصيحون خوفاً ويتراكضون في كل  حدب وصوب. ومع أن الناس عرفوا فيما بعد حقيقة ما حدث وتفاصيل القصة، وأدركوا أن حدوثها كان ممكناً، إلا أنهم شعروا بأن هناك شيئاً يقلقهم في ذلك الرجل، ما جعل البعض من الناس يبتعد عنه. لذلك أصبح الرجل المسكين شخصاً منبوذاً إلى حد كبير، يخافه الناس، ولا يشعرون بالارتياح إليه أو الرغبة في الاقتراب منه.
من الحكايات الأخرى التي تذكرتها بينما كنت أتعبد في محراب الطبيعة في جاتلنبيرج، حفلة زفاف عمي إلى ابنة عمه "رحمة" التي كانت امرأة جميلة ومتحررة بكل مقاييس عصرها. بدأت الزفة من بيتنا، بيت العريس، وخرجت منه إلى مقام الإمام علي في أطراف البلدة القديمة، حيث توقفت هناك طويلاً قبل العودة إلى بيت العريس مروراً بالشارع الرئيسي. كانت خالة والدي، "الحاجة عائشة"، تحملني على كتفيها، وكان ابن عم الوالد والأخ الأكبر للعروس، أحمد إسماعيل، يدق الطبلة طوال الزفة. وفي ليلة الفرح، المسماة ليلة الحنة، كنت الطفل الوحيد من عائلة العروسين الذي رفض أن يضع الحنة في يديه، وكأن التمرد على التقاليد وُلد معي كجزء من جينات ورثتها عن أجداد قدامى لم يعد يتذكرهم تاريخ.
 وفي صباح اليوم التالي، صحت العروس من نومها متأخرة لتجدني أتسلق شجرة تين عجوز ولكن مثمرة، ومن أجل عينيها الجميلتين حاولت أن اقطف لها أفضل ما كان على الشجرة من ثمار يانعة. كانت تلك الثمار تتدلى من طرف غصن طري، ما كدت أن ألمسه حتى هوى الفرع الذي كنت أقف عليه وسقطت على الأرض، ما تسبب في فتح جرح عميق في رأسي، استوجب نقلي في الحال إلى يافا، وإجراء عملية جراحية لوقف النزيف وإغلاق الجرح. وعلى الرغم من شفاء الجرح تماماً بعد أيام، إلا أن آثاره أبت أن تزول، حيث تركت في وسط رأسي أخدود صغير دائم، بدأت معالمه تتكشف للعيان قبل سنوات حين لم يعد في الرأس ما يكفي من الشعر لإخفاء ما تحته من آثار شقاوة قديمة. مع ذلك لم أتوقف عن تسلق شجرة التين أو غيرها، لكنني تعلمت الحذر من تلك التجربة القاسية، ولذا لم أقع من فوق شجرة بعد تلك الحادثة.
من الحكايات الطريفة جداً التي وقعت في قرية يازور، حكاية الحمير الثلاثة التي كشفتْ جريمة قتل بعد مرور سنوات على وقوعها... جريمة مروعة لم تستطع أجهزة البوليس والمخابرات البريطانية اكتشافها. إذ فيما كان ثلاثة إخوة يقودون حميرهم المحملة بالقمح في طريقهم من يازور إلى قرية ساكيه، اعترضت طريقهم عصابة من قطاع الطرق، قام أفراد العصابة بقتل الرجال ودفنهم والاستيلاء على حميرهم وما كان عليها من حمولة. حزن أهل القرية على فقدان الشباب حزناً شديداً، وشاركهم أهل قرية ساكيه الحداد، وتبرع العديد من أبناء القريتين بتشكيل فريق عمل مشترك للبحث عن الجناة والانتقام منهم، لكن كل الجهود، بما في ذلك جهود قوات البوليس البريطاني وجهاز مخابراته باءت بالفشل. بعد مرور بضع سنوات، وكانت الحياة قد عادت إلى بيت عائلة الضحايا إلى ما كانت عليه في الماضي، دق باب البيت طارق بطريقة مألوفة أيقظت الذاكرة من سُباتها. فتحت والدة الضحايا الباب بشوق يشوبه الحذر، فإذا بالحمير تدخل من دون استئذان، فالدار دارها وتعرف مكانها فيه، وقد عادت وعلى ظهورها حمولتها من القمح. كان التعب والإرهاق والعطش يبدو واضحاً على وجوه الحمير، ما جعل المرأة تعانقها وتربت على ظهورها بحنان حتى اطمأنت تماماً، ثم أحضرت لها الماء والشعير، وتركتها تأكل وتشرب وتأخذ قسطاً من الراحة.
جاءت عودة الحمير إلى البيت بعد سنوات غياب مفاجأة أقرب إلى الخيال من الحقيقة، إن لم نقل معجزة. لكن ما كاد أهل البيت يصحون من وقع المفاجأة حتى دق بابهم زوار غرباء، فتحت المرأة الباب، فإذا بالزوار يسألون عن حميرهم، وعما إذا كانت الحمير موجودة لديهم. قالت لهم السيدة بأدب: نعم... الحمير هنا، لقد أكلت وشربت وأنها تأخذ الآن قسطاً من الراحة... تفضلوا استريحوا قليلاً، سأحضر لكم الشاي حتى تنتهي الحمير من غفوتها. وبعد أن جلس الزوار على بساط في ساحة البيت مطمئنين، دخلت السيدة إحدى الغرف، أمرت أحفادها بالذهاب إلى بيوت الأهل والأقارب وإعلامهم بأن قتلة شبابهم وإخوتهم في البيت. لم تمضِ دقائق حتى كان حوالي عشرة من رجال العائلة والجيران قد تجمعوا وألقوا القبض على الزوار وقاموا بتقييد أيديهم وأرجلهم وتحويلهم إلى رهائن. صُعق الزوار... لم يتعودوا على ذلك النوع من الضيافة في يازور التي عُرف عن أهلها الكرم والتسامح واستضافة الغرباء ومد يد العون للمحتاجين منهم. وحين بدأ أهل الضحايا باستجواب ضيوفهم، قال الرهائن إنهم لم يقوموا بقتل أي إنسان، ولا يعرفون عن الحادثة شيئاً، وإنهم اشتروا الحمير قبل سنة في سوق غزة من رجل من أبناء المنطقة يعرفونه جيداً ويعرفون اسمه وبيته حق المعرفة.
إن كون يازور قرية مضيافة على أبواب يافا، جعلها تغدو محطة يتوقف فيها المسافرون إلى المدينة لأخذ قسط من الراحة قبل دخول سوق المدينة الكبيرة والضياع في زحمتها، خاصة الفلاحين الذين كانوا يقصدون يافا مشياً على الأقدام أو بصحبة حميرهم أو بغالهم أو جمالهم المحملة بالبضائع. وحين وصل زوار يازور بحميرهم الثلاثة في ذلك اليوم، قرروا التوقف هناك كالعادة بعض الوقت، استلقوا تحت شجرة جميز كبيرة، وتركوا حميرهم ترعى طليقة. لكن الحمير لاحظت أن المكان كان مألوفاً بالنسبة لها، لذلك تحركت في الاتجاه الذي سلكته في الماضي مراراً وصولاً إلى بيت أصحابها الأصليين. بعد أن صحا الزوار من غفوتهم لم يجدوا الحمير حيث تركوها، ما دفعهم للبدء في البحث عنها بسؤال كل من مر بهم أو قابلهم في الطريق من أهل البلدة. وبالفعل، استطاع أحد الشبان أن يأخذهم إلى مكانها، لأنه كان قد رأى الحمير تدخل بيت أصحابها الأصليين.
كان أهل الضحايا وجيرانهم الذين تواردوا على البيت لإلقاء القبض على "القتلة" في ذلك اليوم حكماء، تحلوا بالصبر حتى لا يظلموا أحداً. وهذا دفعهم لإعلام الجهات الأمنية بدلاً من اللجوء إلى قتل الرهائن والانتقام لثأر قديم. وبالفعل، تم تسليم الرهائن للجهات الأمنية الحكومية، حيث قاموا بتزويد البوليس باسم وعنوان الشخص الذي باعهم الحمير في غزة. وبعد إلقاء القبض عليه، اعترف الرجل باشتراكه في جريمة القتل، كما اعترف بأسماء شركائه، حيث تم إلقاء القبض عليهم جميعاً ومحاكمتهم وإعدامهم. كان كل ذلك يجري دون علم الحمير، ومن دون أن تدري أنها فعلت ما لم تستطع قوات الأمن والمخابرات البريطانية أن تقوم به، وأنه من دون ذاكرتها القوية ووفائها ما كان من الممكن أن يتم القبض على الجناة ومحاكمتهم وتطبيق العدالة بحقهم، ولو بعد حين.
محمد ربيع

No comments:

Post a Comment