Thursday, September 5, 2013

أمريكا والتطورات الدولية: مقتطفات من كتاب التدمير الذاتي العربي:

أمريكا والتطورات الدولية
تشير العديد من الدراسات ومداولات الكونجرس إلى وصول النخبة الأمريكية الحاكمة إلى قناعة بأن الصين تشكل أكبر تهديد لمصالح أمريكا الاقتصادية والإستراتيجية على المدى البعيد. وفي ضوء هذه القناعة، اتجهت الإدارة الأمريكية إلى تعزيز تواجدها العسكري في آسيا والاهتمام بمسرح العمليات العسكرية والتجارية في تلك المنطقة. وتأمل أمريكا من هذا التحول احتواء نفوذ الصين المتزايد في منطقة جنوب شرق آسيا بالذات، وإقناع القيادة الصينية بضرورة احترام مصالح أمريكا والتعاون معها بشأن العديد من القضايا المشتركة. ولما كانت القوة الاقتصادية التنافسية لأمريكا وقوتها العسكرية النسبية قد دخلتا مرحلة التراجع منذ سنوات بسبب حروبها الطويلة في أفغانستان والعراق، وعملياتها العسكرية في دول عديدة مثل اليمن والصومال وباكستان، فإن النخبة الحاكمة في أمريكا رأت على ما يبدو أن الوقت حان للانسحاب التدريجي من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مع ضمان استمرار الهيمنة الأمريكية على تلك المناطق الحيوية.
إن تراجع قوة أمريكا الاقتصادية والعسكرية النسبية جاء بسبب فقدان أمريكا ما كان لديها من قدرات اقتصادية تنافسية، ونتيجة لارتفاع المديونية على مستوى الشعب والدولة، وتزايد حدة الفقر ومعدلات البطالة، واتساع الفجوة بين الأثرياء والفقراء. وعلى سبيل المثال، بلغت ديون الدولة الأمريكية في منتصف عام 2013 حوالي 17 تريليون دولار، أي ما يزيد عن 53 ألف دولار بالنسبة للفرد، فيما تجاوزت ديون الشعب الأمريكي 15.8 تريليون دولار. أما فيما يتعلق بمعدلات الفقر فقد ارتفعت من 14.5% في عام 2009، إلى 16% في عام 2012. وفيما كانت قوة أمريكا الاقتصادية والعسكرية النسبية تتراجع تدريجيا، كانت قوة روسيا العسكرية تنمو باضطراد، وقوة الصين العسكرية والاقتصادية تتصاعد، ما يجعل من الصعب على أمريكا أن تحتفظ بتفوقها العسكري على بقية دول العالم. إضافة إلى ذلك، فيما كانت القدرة الاقتصادية التنافسية لدول الغرب عامة تتقلص، كانت القدرات الاقتصادية التنافسية للعديد من دول العالم تتزايد، ما جعل دول الغرب تفقد ملايين الوظائف الصناعية، وتتحول البطالة في معظمها إلى مشكلة هيكلية يصعب حلها بالطرق التقليدية.
إن تنامي قوة الصين الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، وموقعها الاستراتيجي في القارة الآسيوية، وحجم سكانها الكبير يجعلها – نظريا ً – القوة الوحيدة القادرة على التصدي للقوة الأمريكية على المدى البعيد. ولما كان صعود الصين السريع يشكل تهديداً لمصالح أمريكا الإستراتيجية، فإن عدم مواجهة التحدي الصيني اليوم قد يؤدي إلى انتهاء الإمبراطورية الأمريكية وتقويض نفوذها في جزء كبير وهام من العالم في المستقبل القريب. ومما يزيد المشكلة الصينية تعقيداً توجه الصين نحو القارة الإفريقية والاستثمار فيها بكثافة، واستئجار مساحات كبيرة من أراضيها الزراعية، وتقديم بلايين الدولارات مساعدات لها ولحكامها. إضافة إلى ذلك، تقوم الصين بالعمل على احتكار بعض المعادن النادرة التي لا غنى عنها للعديد من الصناعات الحربية والسلمية الاستراتيجية. ومع أن الصين تشكل حوالي 20% من سكان العالم، إلا أنها لا تملك سوى 7.5% تقريبا من الأراضي الزراعية الخصبة، ما يعني أنها بحاجة إلى المزيد من الأراضي الزراعية كي لا تقع تحت رحمة دول المعسكر الغربي. وهذا يعني أنه فيما اتجهت أمريكا إلى الهيمنة على أهم مصادر الطاقة المتواجدة في المنطقة العربية، تتجه الصين إلى الهيمنة على أهم مصادر الغذاء المتواجدة في القارة الأفريقية، واحتكار المعادن الاستراتيجية.
تملك الصين احتياطي من العملات الصعبة يزيد عن 3.5 تريليون دولار، ما يجعلها قادرة على شراء جميع ما لدى القارة الإفريقية ودولها من معادن وأراضي زراعية وشواطئ ونخب سياسية واقتصادية قابلة للبيع. من ناحية ثانية، يشكل التقدم الصيني في مجال البحوث التكنولوجية وعلوم الفضاء تحدياً في غاية الأهمية لا تستطيع أمريكا أن تتجاهله، كما قامت الصين، كما تدعي الحكومة الأمريكية، بسرقة 14 نظاماً عسكرياً جديداً تحت التطوير تمثل الجيل القادم من النظم الحربية. لهذا وجدت أمريكا نفسها مضطرة إلى التوجه نحو آسيا ضمن خطة عسكرية سياسية اقتصادية لاحتواء نفوذ الصين والحد من تمدد الإخطبوط الصيني. ويأتي اقتراح أوباما بخفض عدد الرؤوس النووية ضمن خطة أمريكية تستهدف على ما يبدو تحييد روسيا، ولو مؤقتا، فيما تقوم أمريكا بمواجهة المارد الصيني. كما جاءت زيارة أوباما لبعض الدول الإفريقية في أواخر شهر يونيو 2013 في محاولة لاستعادة النفوذ الأمريكي في تلك القارة وفتح أسواق استثمار وتجارة جديدة للشركات الأمريكية. ومع أن أطماع الصين في إفريقيا واضحة، إلا أن النخب الحاكمة في أغلبية الدول الإفريقية لا تمانع من التعاون مع الصين بعد أن قام الغرب بالتخلي عنها وإهمالها في أعقاب انتهاء عهود الاستعمار البغيضة لدرجة جعلت أفريقيا تبدو قارة منسية.
إن اتجاه أمريكا إلى احتواء قوة الصين الاقتصادية والعسكرية المتنامية قد يتسبب في دخول الدولتين في سباق اقتصادي تكنولوجي عسكري من الصعب أن تكسبه أمريكا، وقد تخرج منه كما خرجت روسيا من الحرب الباردة منهكة من النواحي الاقتصادية والنفسية وممزقة من النواحي الاجتماعية. ومع أن باستطاعة أمريكا أن تحافظ على تفوقها الاقتصادي على الصين والعسكري على روسيا لسنوات قادمة، إلا أن التمحور العقائدي والتفاوت الطبقي والجشع الذي يسيطر على عقول النخبة الأمريكية الحاكمة يجعل مهمة أمريكا صعبة للغاية. وحتى في حال نجاح أمريكا في كسب سباق التسلح مع الصين وروسيا فإن ثمن النجاح سيكون باهظاً للغاية وتبعاته وخيمة على الساحة الداخلية، قد تقود إلى إعادة هيكلة الفلسفة السياسية والعسكرية والاقتصادية الأمريكية، ما يفتح المجال لبروز نخبة اجتماعية اقتصادية جديدة قد لا يأتي صعودها إلى السلطة سلمياً. في ضوء هذه التطورات والاحتمالات، اتجهت أمريكا إلى الاستثمار في الأسلحة ونظم الحرب، وشراء الذهب من الدول الفقيرة، والعمل بهدوء وتأني على تحويل بعض الدول إلى دول فاشلة مثل العراق وباكستان تتقاسم السلطة فيها عصابات مسلحة، وتمكين إسرائيل من الهيمنة على المنطقة العربية.
إن أهمية المنطقة العربية من النواحي الإستراتيجية بالنسبة لأمريكا دفعت أوباما إلى دعم إسرائيل ومدها بالمزيد من الأسلحة والمال لتمكينها من الهيمنة على تلك المنطقة نيابة عن أمريكا، مع خلق ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية تحول دون قيام تعاون فعال بين الدول العربية. ولما كانت تلك الأهداف تخدم أيضاً مصالح بريطانيا وفرنسا، فإن قوى الاستعمار القديم والجديد اتفقت فيما بينها على ما يبدو على خطة ترمي إلى تقويض القدرات التنموية لكل الدول العربية وتجزئتها إلى دويلات متناحرة، وحرمان شعوبها من فرص التقدم والتحرر والعيش في وئام وسلام وأمان. ومع شيوع نموذج الدولة الفاشلة في البلاد العربية، تستحوذ إسرائيل على "شرعية دولية" تمنحها حق التصرف بحرية في منطقة تحكمها عصابات خارجة على القانون. وهذا من شأنه أن يعزز قدرات إسرائيل على تحويل الحكام العرب إلى أمراء طوائف، واستعباد العرب واستغلال مواردهم باستخدام حكام بلا إرادة، وقادة عصابات يأتمرون بأمرها ويديرون البلاد لحسابها وحساب أمريكا. لذلك اتجهت قوى الغرب الاستعمارية إلى تحريض الطوائف والأقليات في معظم الدول العربية ضد بعضها البعض وضد نظم الحكم القائمة، وجر كل دولة ببطء نحو التمزق من الداخل والدخول في حروب طائفية وإثنية ودينية تفضي في نهاية المطاف إلى فشل الدولة وهيمنة عصابات مسلحة عليها. ولما كان من غير الممكن احتفاظ عصابة بنفوذها من دون أسلحة ودعم خارجي، فإن كل عصابة ستجد نفسها مضطرة إلى اللجوء إلى نفس القوى الاستعمارية في مقابل توظيف إمكانياتها في خدمة تلك القوى، ما يحولها بسرعة إلى قوى عميلة تخون وطنها، وتعمل ضد شعبها، وتهدم مستقبل أطفالها. 


No comments:

Post a Comment