Wednesday, April 3, 2013

تخلف الثقافة وثقافة التخلف


          الثقافة هي مجموعة انجازات المجتمع المتعلقة بنواحي الحياة غير المادية، لذلك تعتبر العادات والتقاليد وطرق التفكير والمواقف والقيم والمعتقدات أبرز العناصر الثقافية التي تتكون منها كل ثقافة من الثقافات "الوطنية". إن تعايش العديد من الأفراد معا فيما يسمى بالمجتمع لآلاف السنين كان سببا في قيام أعضاء المجتمع الواحد بتطوير ثقافة وطنية خاصة بهم تعبر عن شخصيتهم وظروف معيشتهم. وهذا جعل بالإمكان تشابه ثقافات بعض الشعوب، واختلاف ثقافات شعوب أخرى عن بعضها البعض. ويعود التشابه والاختلاف في كلتا الحالتين إلى مسيرة الثقافة عبر القرون من ناحية، وموقع كل ثقافة من حركة التاريخ وتطور الحضارات من ناحية ثانية. لذا يلاحظ المعني بحال وتاريخ الثقافات أن الثقافة كائن حي يتطور باستمرار، تتغير عناصره مع تطور وتواتر الحضارات، مما يجعلها تبتعد عن جذورها كلما انتقل المجتمع من عصر حضاري معين لعصر حضاري آخر.

          إن كل من يعتقد أن الثقافة الوطنية شيء ثابت لا يتغير يرتكب خطأ تاريخيا جسيما، وإن كل من يرى أن العادات والتقاليد والقيم أشياء مقدسة وأنه يجب الحفاظ عليها وصيانتها والدفاع عنها في وجه تحديات العصر يرتكب حماقة كبيرة بحق نفسه، وبحق ثقافته وشعبه ومستقبل أمته على السواء. لقد كان المجتمع القبلي على سبيل المثال، أول من اتخذ موقف الدفاع عن العادات والتقاليد والأعراف القبلية في وجه المد الزراعي وثقافته المختلفة نوعيا، والأكثر تطورا وإنسانية، إلا أن المجتمع القبلي فشل في النهاية في حماية ما أراد حمايته من عناصر ثقافية، حيث اضطرت غالبيته إلى التحول إلى ممارسة مهنة الزراعة واستمراء حياة الاستقرار. كذلك قام المجتمع الزراعي في أوروبا بعد أن استقر وشيد القرى والمدن بالتفاني في الحفاظ على ثقافته وطريقة حياته في وجه المد الصناعي وثقافته المختلفة. إلا انه فشل كسالفه واضطر إلى التحول إلى مجتمع صناعي والتنازل عن عادات وتقاليد مجتمع تجاوزه الزمن وطوته حركة التاريخ.  

          إن المثقف العربي الذي يطالب بالحفاظ على الثقافة العربية يجهل تماما ما يطالب به. إنه لا يقول صراحة ماذا يريد، وليس بإمكانه أن يحدد لنا العناصر الثقافية التي يرى وجوب الحفاظ عليها وحمايتها. إنه يقف موقف الرفض من العديد من العادات والقيم الوافدة، والتي لا تتوافق مع ما تربي عليه من عادات وتقاليد قديمة، ويقوم في الغالب بممارسة سرا ما يحاول رفضه علنا. فهل يطالب ذلك المثقف مثلا بالحفاظ على عادات وأعراف المجتمع القبلي، بما في ذلك تقاليد النهب والسلب وسبي النساء والأخذ بالثأر؟ أم بالحفاظ على عادات وتقاليد وقيم المجتمع الزراعي، بما في ذلك احتقار العمل اليدوي واستغلال المرأة وعدم الاهتمام بالتعليم؟ أم يطالب بالدفاع عن ثقافة السيجارة، أو الأرجيلة، أو الاستهتار في سياقة السيارات، أو تجارة التعليم وامتهان المعلم؟ 
  في معرض تعليقي على مطلب بعض المثقفين بالحفاظ على الثقافة، شرحت في إحدى المؤتمرات تجربة خاصة كنت قد عشتها قبل انعقاد المؤتمر بيومين فقط. وكانت التجربة التي مررت بها قد وقعت يومي الخميس والجمعة السابقين.  حضرت يوم الخميس حفلة زفاف كبرى، وأخرى صغرى يوم الجمعة... تمت الحفلة الأولى في أرقى فنادق المدينة، وتجاوزت تكاليفها مليون دولار، وكانت مختلطة، وشهدت عرضا غير رسمي للأزياء والمجوهرات والزهور وحشد من الفنانين العرب الكبار. أما الحفلة الثانية فقد تمت في اصغر قاعات الأعراس وأكثرها تواضعا في المدينة، وبلغت تكاليفها حوالي 2000 دولار فقط، ولم يشارك بها أي فنان كبير أو صغير، وكان هناك فصل بين الرجال والنساء. وهنا تساءلت عن مدى التشابه والاختلاف بين الثقافتين، وسألت المدافعين عما يسمى بالثقافة العربية عن الثقافة التي يريدون الحفاظ عليها،  أهي ثقافة يوم الخميس، أم ثقافة يوم الجمعة، أم واحد من عشرات الأطياف الثقافية المتنوعة التي تقع بين الثقافتين؟

    إن موروثنا الثقافي الذي يحاول مثقفونا التقليديون الحفاظ عليه والدفاع عنه في وجه موجة العولمة هو حصيل تراكمية لتبعات تجارب حياتية، فردية ومجتمعية عبر عشرات الآلاف من السنين. كما أنه تأثر بما لا عدد له ولا حصر لتبعاته من الأحداث التاريخية والتطورات التكنولوجية والتلاقح الحضاري مع ثقافات الغير من الشعوب. وهذا يجعل الثقافة العربية، شأنها في ذلك شأن ثقافات الشعوب الأخرى، ثقافة مختلطة تفتقد النقاء والأصالة.

   إن من يخاف على الثقافة العربية من العولمة وما تروج له من قيم ومسلكيات وأنماط  استهلاكية وافدة لا يدرك أن  الخوف متبادل بين الشرق والغرب، وأن القيم والمسلكيات والتقاليد الوافدة لا تهب رياحها من الغرب إلى الشرق فقط، بل تهب أيضا من الشرق إلى الغرب. وعلى سبيل المثال، أصبحت المطاعم الصينية والايطالية في أمريكا أكثر شعبية وشيوعا من المطاعم الأمريكية التقليدية، وأصبح طبق الحمص العربي أكثر الأطباق شعبية لدى طلاب الجامعات الأمريكية. وكما صدر لنا الغرب عادة شرب الكوكا كولا، صدرنا له عادة تدخين الأرجيلة التي ينتشر استخدامها بشكل واسع ومتنامي في الكثير من المدن الأوروبية والأمريكية.    

 إن الثقافة العربية التي يعتز بها الكثيرون هي هجين من ثقافات مختلفة، قبلية وزراعية وصناعية، عربية وإسلامية ومسيحية ويهودية ووثنية، آسيوية وافريقية وأوروبية وأمريكية. لكن، بينما يغلب على الثقافة العربية الطابع الزراعي الديني، يغلب على الثقافات الغربية الطابع الصناعي العلماني. وهذا يجعل ثقافتنا تميل بطبيعتها إلى الكسل والتواكل والابتعاد عن القيم المحبذة للإنتاج واحترام الوقت، وتتصف بضعف القدرة على التفكير العلمي والمثابرة في العمل... إنها ثقافة افتقدت، وقبل وصول العولمة بقرون، زمام البادرة، وأصبحت ثقافة متخلفة عن عصرها ولا تعكس صفات البيئة التي أفرزتها. وهذا يعني ببساطة أن توقف ثقافتنا عن التطور جعلها تتخلف، وتغدو عاجزة عن التعايش مع العصر، وغير مؤهلة للتفاعل الواعي مع انجازاته والاستفادة منها، كما يجعل تمسك المثقفين التقليديين بها هو تمسك بثقافة التخلف.


د. محمد عبد العزيز ربيع             professorrabie@yahoo.com



         

No comments:

Post a Comment