Sunday, November 13, 2016

الفكر العقائدي وازمة العرب
يقوم الإسلام على رؤية واضحة تتكون من شقين: حياة فاضلة في الحياة الدنيا، وحياة أبدية في جنان الآخرة؛ أما الوصول إلى الجنة الموعودة فيتم عبر حياة يشكل الايمان والعمل الصالح وأداء الشعائر الدينية مكوناتها. ولما كان القرآن الكريم قد قال بأنه معجزة كلامية ليس باستطاعة إنسان أن يأتي بمثله، فإن الكلمة في الفكر العربي أصبحت هي جوهر الثقافة الشعبية وروحها. نتيجة لذلك أصبح تأثير الكلمة في قناعات الجماهير ومواقفها كبيرا للغاية، مما جعل من الصعب على الحقائق العلمية أن تتحدى سلطة الكلمة، خاصة كلمة رجال الدين؛ وهذا جعل الثقافة العربية تغدو ثقافة الكلمة والبلاغة والشعر، وذلك بدلا من أن تكون ثقافة المنطق والفلسفة والعمل والعقل والعلم.
وفيما كان جوهر الثقافة يترسخ في الوجدان الشعبي بوصفه كلمات ذات قدسية، جاء الفكر الديني ليقوم بتطوير روح الدين في سلوكيات وليس في إجراءات عملية ذات بعد إنتاجي أو علمي. إذ على سبيل المثال، جعل ذلك الفكر شروط دخول الجنة تتكون أساساً من أداء الشعائر الدينية، والدعاء والابتهال إلى الله سبحانه وتعالى بهدف الفوز برحمته ورضاه. ولما كانت أغلبية الشعائر والطقوس والابتهالات لا علاقة لها بالحياة الدنيا، فإن تلك الأمور أصبحت، بمقياس العلم والاقتصاد والإنتاج، مضيعة للوقت وهدر للحياة. ولقد تسببت طرق التفكير هذه في صرف نظر العرب عن العمل والإنتاج وعلوم الدنيا، مما أسهم في تخلفهم عن معظم شعوب العالم في كافة نواحي الحياة، إذ لا يوجد مجتمع عربي واحد أو مؤسسة عربية واحدة تتميز في مجال من مجالات العلم أو الفكر أو الصناعة أو حتى المنتجات الثقافية.
من وجهة نظر العقادئ المتدين، تتحكم في الحياة ومصائر البشر حتميات دينيةإليهة؛ أما من وجهة نظر العقائدي القومي والماركسي، فإن الحتميات التاريخية هي التي تتحكم في الحياة ومصائر البشر. وهذا جعل كل عقائدي يميل إلى الاستسلام والعدوانية والابتعاد عن التفكير في آن واحد. فالإنسان هذا يميل إلى الاستسلام لأنه يؤمن بأن كل ما يحدث في العالم يأتي نتيجة للحتمية التي يؤمن بها، وهي حتمية ليس باستطاعته تغييرها. كما أنه يميل إلى العدوانية لأنه على قناعة بأنه يملك الحقيقة دون غيره من البشر، ما يدفعه إلى رفض كل فكر لا يتفق مع ايمانه. أما فيما يتعلق بالفكر والتفكير، فإنه لا يوجد عقائدي متزمت يملك عقلا قادرا على التصرف بناء على إرادة ذاتية، فعقل كل عقادئي هو عقل مُبرمج يتصرف بناء على ما لديه من أفكار ايمانية قام بتطويرها عقائديون ربما كان هدفهم هو السيطرة على الناس وإرضاء الحاكم وليس الله او خدمة الإنسانية. 
ولما كان عصر الإسلام الذهبي قد انتهى منذ عشرة قرون، وأن كل ما جاء بشأنه في كتب التراث يميل إلى المبالغة والتهويل، فإن كل دعوة لإحياء الماضي أصبحت دعوة لتشييد مستقبل في صورة تجربة هلامية تعيش في مخيلة المؤمن وليس حقيقة يمكن رؤيتها وتقييمها؛ وهذا جعل من المستحيل إعادة تشكيل تجربة لم تكن واقعا في يوم من الأيام. من ناحية ثانية، لما كان الفكر الديني اكثر اهتماما بالحياة الآخرة من الحياة الدنيا، لأن الحياة الدنيا فانية والحياة الآخرة أزلية، فإن هذا الفكر تمكن من كسب قلوب مئات الملايين من البشر من دون أن يقدم لهم شيئا ماديا ملموسا. فالإسلام، كما يقول الفقهاء، يَعِدُ المؤمنين بكل ما تشتهي نفوسهم في الآخرة، ولا شيء يذكر في الحياة الدنيا. وهذا أعفى فقهاء الماضي والحاضر على السواء من مسؤولية ما حدث ويحدث للمسلمين في الحياة الدنيا من كوارث ارتبكوا معظمها بخيارهم.
إن كافة الايديولوجين، العرب والمسلمين وغيرهم، يرفضون المنطق الذي يدعو إلى التغيير المتدرج، فالقوميون العرب والسلفيون لا يرضيهم شيئ سوى الأهداف الكبرى التي تجسد رؤية فلسفية شمولية، دون أن يدركوا أن الأهداف الكبرى ترقد مرتاحة منذ زمن في قبور تكاد آثارها أن تختفي من الوجود. كما أن إصرار هؤلاء على تحقيق الاهداف القومية والدينية التي ينادون بها يأتي مقترنا بفشلهم في تطوير رؤية عصرية تتعايش مع الزمن وتستفيد من انجازاته، وكأن الأهداف قدر يأتي من السماء وليس برنامجا يحتاج إلى فكر وعمل وتضحيات كبيرة. وهذا يعني أن الرؤية التي تتبناها الفئات القومية والسلفية لا تمثل عملية تحول تحتاج إلى عقود، وإنما هي عربة سحرية تصل فجأة كي تحمل الجماهير من الواقع المتأزم إلى حلم الماضي خلال أيام او أسابيع. وهذا يجعل النضال لتحقيق الرؤية المُتخيّلة عبارة عن طريق تقود إلى مكان ليس له وجود، فيما تجعل الحياة قصة معاناة لا تنتهي ولا تستحق الحياة.
إن الادعاء بأن تشييد المجتمع الإسلامي القديم كفيل وحده بتصحيح الأخطاء والتغلب على مشاكل الحاضر هو إدعاء يتنافى مع منطق العقل والعلم والتاريخ والواقع؛ إذ يفترض هذا الادعاء أن تحديات الحاضر هي نفس تحديات الماضي، وأن معطيات الحياة وقيم الناس ومواقفهم لم تتغير عبر قرون. وتبعا لهذا الادعاء، تضمن العودة بالمجتمع إلى الماضي إقامة مجتمع "الفضيلة"، وتوفير شروط دخول الجنة والتمتع بخيراتها. ولما كان التاريخ لا يعيد تكرار نفسه ولو لساعة واحدة، فإن الوعد هذا تسبب في تحويل معظم المؤمنين به إلى أشخاص يعيشون في عالم تسكنه الاوهام ويغيب عن سمائه المنطق والعقل؛ ومع توارد الأيام والسنين دون تحقيق الحلم يتحول الاتباع تدريجيا إلى متطرفين وربما إرهابيين، يَقتُلون ويُقتَلون من أجل اختصار الطريق والوصول إلى الجنة الموعودة بسرعة. وفي الواقع، كلما طالت فترة انتظار وصول مجتمع الفضيلة كلما زاد تطرف المؤمنين وتراجعت قدراتهم على التفكير العقلاني. وهذا يعني أن السبيل الوحيد لمعالجة أزمة الفكر والواقع العربي تقتضي استثمار أكبر قدر ممكن من الموارد البشرية والمالية والفنية في تطوير نظم التعليم وطرق التفكير والثقافات الشعبية والاقتصاديات الوطنية في كل مكان.
بروفيسور محمد ربيع



No comments:

Post a Comment